رغبات غير قابلة للترويض

ثقافة 2022/03/05
...

ستار كاووش

تأخر كثيراً اعتراف الوساط الفنيَّة بمكانة الرسام النمساوي إيغون شيله (1890 - 1918)، فبعد النسيان الذي تراكم على أعماله، انبرى صديقه القديم، الناقد آرثر روسلر للدفاع عنه، وألَّفَ كتاباً عن سيرة هذا الرسام الغريب.
فتعرَّفَ العالم عليه وأخذت لوحاته طريقها للشهرة والمتاحف والعروض الكبيرة.
وبسبب الجرأة التي ميزت شيله من حيث الخطوط والموضوعات، لم يتخلص الكثير من شباب الرسامين من شِراكِ الإعجاب به وبأعماله الساحرة.
لكنْ ليس من السهولة لهؤلاء الذين فُتِنوا بأعماله، أنْ يمضوا على طريقته مع الفن، وإنْ أرادوا فعل ذلك حقاً، فعليهم أنْ يكونوا أولاً، عراة من الملابس ومكشوفي الروح، متجردين من التقاليد ومتحررين من الأعراف الاجتماعيَّة، وربما يفتقدون للتربية التقليديَّة.
حين تقترب أكثر من أعمال هذا الرسام، ستَلتَفُّ حبائله الجماليَّة -من تلقاء نفسها- حولك مثل شباك صياد، لتسحبك نحو هذا العالم الذي يبدو ممنوعاً لكنه مليء بالصبابة والرغبة والتحرر.
هذا هو شيله الذي مزجَ الرغبات الدفينة مع الفجور، ورسمَ لوحات بروحٍ مضطربة مليئة بآلام تبدو غير قابلة للترويض.
معنا هنا بورتريت حبيبته وولي نويزل الذي يعدُّ بحجمه الكبير والمؤثر من أهم مقتنيات متحف لاهاي. 
تظهر وولي هنا بثوبها المخطط بألوان قوس قزح، والمثبت بأزرارٍ بيضاء وحزامٍ بنفسجي داكن، تبدو بهيئة مسترخية ومستقرة، وكأنَّها دمية في واجهة محل، بشعرها المسحوب الى الخلف، وعينيها الذابلتين، وملامح وجهها الذي يبدو أنَّ ابتسامة قد أَفلَتَتْ منه تواً، ابتسامة خفيفة طافت بينها وبين الرسام الذي ربما ألْمَحَ لها بإشارة أو نكتة ايروتيكيَّة. 
نرى كيف تتدلى يداها باستسلامٍ غريبٍ في حضرة رسامٍ أكثر غرابة.
وقد جعل هنا الخلفيَّة فارغة بلونٍ فاتحٍ لنركز انتباهنا على وولي وتعبير وجهها وفستانها الذي تتعرج خطوطه المتكسرة نحو الأسفل.
وقد رسمَ لها شيله عدة بورتريهات بذات الفستان وبوضعيات مختلفة.
تأثر شيله كثيراً بمواطنه الرسام غوستاف كليمت، الذي كان بالنسبة له رساماً نبياً يملك كل أسرار الرسم وجماله وتأثيره، مع ذلك، وجد هذا الفنان الشاب أسلوبه الخاص في النهاية، والذي عكسَ شخصيته ورؤيته الفنيَّة، فالخطوط اللينة والأشكال المستديرة عند كليمت، أصبحت حادة ومتوترة ومنفعلة عند شيله، والألوان الزخرفيَّة المتناغمة عند أُستاذه، تحولت عنده الى سحباتٍ تشبه آثار آلة حادة، لتبدو شخوصه بالنسبة للمشاهدين هلعة وغريبة، بعد أنْ رسمها في الغالب، بمشاهد موغلة في إظهار عريها، وبوضعيات غير معتادة من قبل.
خطوط شيله واضحة وقوية ومؤثرة، وتحمل مسحة تكعيبيَّة نوعاً ما، وهو يتحكم بها ويجعلها تضيق الخناق على ملامح الشخصيات، بطريقة بارعة وحساسة، لهذا يعدَّهُ الكثير من النقاد مُخططاً أكثر منه مُلَوِّناً، فهو بعد أنْ تتماسك الخطوط لديه وتكتمل، يضع الألوان ويملأ بها المساحات، وقد عَرَفَ كيف يوظف الألوان مع غرابة الخطوط ليعزز تعبيريتها.
وحين نتأمل لوحاته جيداً، نرى كيف تعكس شخصيته الجنسيَّة النرجسيَّة، وربما هذا هو سبب تأخر الإقبال على أعماله.
مع ذلك فالجرأة التي تمتع بها هذا الفنان نادرة وخاصة.