هامش الثقافة العراقيَّة مبدعون في مهبّ النسيان

ثقافة 2022/03/06
...

 استطلاع: صلاح حسن السيلاوي 
هنا أو هناك في هامش الحياة الثقافية، كثير من الحيوات المنسية، تولد وتموت من دون أن يلامسها ضوء المنصات، أو تتوهج بين سطورها شمس الشهرة، أو يلوح لها بصيص الاطلاع، أو أمل التوثيق على الأقل.
هامش حياتنا الثقافية أوسع من مركزها بكثير، وطالما ابتلع هذا الهامش تجارب كثيرة ورماها في بطن النسيان المزدحمة بثقافات وأديان وعادات وتقاليد بل ومجتمعات متراكمة في ذلك الغياب اللا متناهي.
عن هذا الواقع وعن مضامينه، عن أسماء أفنت كل مدخراتها من العمر والجهد والوعي لإنجاز كتب، وفن وثقافة متنوعة ولكنها ذهبت في غالب الأمر إلى نسيان مرير ومريع وغريب، عن كل هذا نتساءل!. 
تجارب لم تنصفها الحياة الاجتماعية ولا المشهد الثقافي، أسماء لامعة في جدل النسيان. عن حياة ذلك الهامش وعن أسمائه المنسية نبحث هنا مع نخبة متميزة من مثقفينا في عدد من المحافظات.
 
سمة تمارسها مجتمعاتنا 
القاص أحمد محمد الموسوي يرى أن ظاهرة نسيان المبدع وإهماله، وعدم الاهتمام بالإبداع، باعتباره دعامة من دعامات تقدم الشعوب والمجتمعات وتطورها وصولاً لبناء الحضارة ورقيها، نسيان ممتد عبر الأزمنة المختلفة، يكاد يكون سمة ولازمة تمارسها مجتمعاتنا على الصعيد الرسمي والشعبي على حد سواء، وتساءل الموسوي قائلا: كم من مبدع طواه النسيان وهو يعمل بعيداً عن الأضواء والرعاية والاهتمام حتى من أسرته وأهله وعشيرته الأقربين، علاوة على غياب الرعاية الرسمية في هذا الميدان من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية المتخصصة.
وأضاف: نحن نعلم اليوم تماماً أن السبب في تقدم الأمم المتحضرة هو اهتمامها بالإبداع والمبدعين، الذي يتعدى الى المبدعين الوافدين إليها من البلدان الأخرى فتقوم بتشجيعهم واحتضانهم ومنحهم التسهيلات والامتيازات المهمة.. ومن زاوية أخرى تزخر مكتباتنا بالعديد من المخطوطات والرسائل الجامعية وأطاريح دكتوراه، مهملة لا يصل منها إلى سوق القراءة الا ما تمتد اليه يد الباحث نفسها وبجهد وقدرات شخصية تثقل كاهله وتأكل من رزقه ورزق عياله، وكم براءة اختراع ليس لها من حظ سوى أن تدوّن في السجلات الرسمية ليلوكها بعد ذلك ضرس النسيان، وكم من مبدع ترك وهو يواجه ظروفاً قاهرة ومصيراً غير معلوم، مرةً وهو يكابد العمل، وأخرى وهو يصارع المرض وينازع المنية (على نفقته الخاصة) بحسب تعبير صديقنا الشاعر رياض الغريب، والأمثلة على ذلك عديدة، ومنها مؤخراً وفي النجف فقط، الراحلون على التوالي: الروائي عبد الهادي الفرطوسي والأديب حميد المطبعي والشاعر حمودي السلامي والناقد عبد الرضا جباره والفنان إحسان التلال وشيخ الصحافة الثقافية رزاق ابراهيم حسن وغيرهم..
وقال الموسوي أيضا: لعل أهم سبب لما يعانيه المبدع في مجتمعاتنا من إهمال هو غياب القانون الذي يحمي الملكية الفكرية والابداع، وعدم تمكن المبدع والمنتج في الميدان الثقافي بشكل عام أن يعيش من مردود نتاجه وإبداعه، فهو إن أراد إيصال منتجه للناس كان لزاماً عليه إهداؤه لهم واستجداء رغبتهم باقتنائه والإفادة منه، مما يجعل ذلك المنتج رخيصاً بأعين المتلقين لمجانيته.
ولهذا كله فنحن لسنا بحاجة إلى رعاة وداعمين وقتيين يأتون إلينا في الوقت الذي يحتاجوننا فقط، وإنما نحن بأمس الحاجة إلى قوانين راعية ومؤسسات متخصصة تأخذ على عاتقها مهمة حماية المبدع ورعايته، كما تسهر على تهيئة الأرضية المناسبة لنمو الإبداع في المجتمع.
 
من سراب الذاكرة
الشاعر علي الاسكندري نوه في بداية رأيه بأهمية  فكرة هذا الاستطلاع التي يعدها من الأفكار المثيرة التي يمكن أن تحظى باهتمام طائفة واسعة من المشتغلين في صناعة الجمال والمعرفيات والثقافة من أولئك الذين لم تحالفهم الحظوظ لنيل نصيبهم من الظهور واللمعان وربما الكاريزما على الرغم مما بذلوه من جهود حثيثة في الإبداع وأصنافه من شعر وقص ونقد وضروب أخرى لأسباب عديدة منها ظروف الحياة الصعبة بالنسبة للبعض منهم، فضلا عن تعسّر الحياة الاجتماعية ومنهم من أغفله الإعلام ومؤسسات الثقافة بسبب عدم تواصله معها او انشغاله في تفاصيل اليومي وإيقاع الحياة المتسارع فتراه تمدد في خانة الهامش السكونية وغادر مركزية المتون الضاجة بالحركة تاركا الميدان لمواهب أقل كفاءة منه على حد تعبيره.
وقال الاسكندري موضحا: لعلنا لا نجافي الصواب حين نضع اسم القاص والكاتب الراحل حسن مهدي نصرالله في مستهل قائمة الذين تواروا خلف حجب النسيان والى الأبد بسبب الظرف القاهر الذي جابهه في حياته وهو المبدع الجميل الذي احتضن أدباء الاسكندرية في السبعينات خاصة وأنه الأكبر سنا ونضجا فيهم ومنهم كاتب هذي السطور ونجح الى حد بعيد في رسم خطوط النجاح لهم وكانت روايته الرائعة (كل الجماجم تبتسم) من الأعمال النادرة والتي بقيت (مخطوطة) لم تطبع حتى أصيب بمرض عضال وتشرّد بسبب الفاقة والمرض وضاعت كل مخطوطاته بعد وفاته في بداية العقد الثاني من هذه الألفية أذكر منها مجموعته القصصية (الشيخ شامبو) وغيرها الكثير والجدير بالذكر أن الراحل كان أول رئيس لملتقى الاسكندرية الأدبي في نيسان عام 1989، ولا ننسى الشاعر والمسرحي الراحل حسين السلطاني الذي رحل مبكرا قبل أن يكمل مشروعه الإبداعي الذي كان مفتونا به في المسرح تأليفا ونقدا وفي قصيدة النثر كذلك وقد صدرت أولى مجاميعه الشعرية في تسعينات القرن الماضي (هارب أنتَ كأيل جميل) وبعد عقد من الزمان صدرت له مجموعته الثانية (كاف يا وتري.. نصوص البديعة) كذلك مخطوطة لم تر النور لمجموعة نصوص موندراما تحت عنوان (حمل في مرايا الذئاب).. وإذا ما تحرينا ذاكرة بابل فسوف نجدها تتحدث عن شاعر متمرّد تخندق خلف حجاب العزلة ولم يأخذ كفايته من الضوء واللمعان والشهرة ألا وهو الشاعر خالد البابلي والذي صدرت له أربع مجاميع شعرية هي على التوالي (مساء الأباضي) و (أصابع التراب) و (كل شيء) و (عربة يالطا)، وهنالك الكثير من الأسماء التي تسربت إلى اسفنجة النسيان لتركد مستسلمة أما لظرف قاهر أو لرغبة شخصية غامضة. 
 
حرب الهامش والنسيان 
الروائي سالم حميد ذهب برأيه إلى أن الثقافة الشعبوية التي يخضع لها الإعلام في العراق وبقية الدول العربية الأخرى وسعت من مساحة شريط الهامش وغمقت من لونه الداكن أكثر بحيث سيصعب العثور على المهمشين من أدباء وفنانين في المستقبل. ووصف حميد سكان الهامش بأنهم يكدون في عملهم من دون كلل وملل وكأنهم يخوضون حربا ضد الظلام والنسيان، وكل ما ينتجونه في ظلمتهم الحالكة قد لا يرى النور أبداً وقد يراه بينما هم ينامون في القبور، فينتبه الناس إلى أعمالهم بعد فوات الأوان. وأضاف موضحا: تبقى مقولة الراحل محمود البريكان (عِشْ في العتمة وانشرْ في الضوء) ما هي إلا محاولة للتضحية في الذات من أجل ظهور المنجز وهو طموح أي مهمش في هذا الكون. أن من يعتم ويهدر التجارب الفذة والأصيلة من كتاب وشعراء وفنانين وغيرهم ممن يملكون تجارب كبيرة في الثقافة وفي الحياة، يقدم بالمقابل الضد النوعي لهم لملء الفراغ فقط.
يلعب الإعلام المزيف دوراً كبيراً بإنتاج ثقافة هزيلة فيحتفي بفنانات لا يملكن أي موهبة سوى الشبق والشفاه المنفوخة ويتناسى تجارب الفنانات الحقيقيات ويضعهن في عتمة الهامش ويحتفي بمطربين لا يستطيعون تعريف الفن بسطر واحد، ويحتفي بشعراء بلا قصائد وكتاب لايملكون سوى هويات اتحاد الأدباء والكتاب. إن المدوّن والمحشش على منصات التواصل الاجتماعي أخذ بالتدريج يزيح الإعلامي الحقيقي ويحتل مكانه، بل إن بعض الإعلاميين من الذين يميلون مع الريح صاروا يقلّدون المدوّنين ربما حتى يبقون في أمكنتهم. فما نراه من أشباه المثقفين وهم يتصدرون المشهد يعطي صورة مخيبة للآمال ومخيبة للذات المبدعة التي كدحت على مدى حياتها، وقد يصاب المتلقي ربما بالإحباط حين يرى أشباه المثقفين وهم يتصدرون المشهد ليقدموا أعمالاً هزيلة لا تستحق حتى معاينتها.