المثقف والباذنجان

ثقافة 2022/03/06
...

  د. سهام السامرائي
 
ليس شرطًا أن يكون المثقف هو من أكمل مرحلة تعليمية أو حصل على شهادة أكاديمية أو لقب علمي عالٍ أو كان باحثًا متبحّرًا في بعض ميادين العلم والمعرفة، وعليه فإنَّه ليس كل متعلم مثقف، هناك فرق كبير بين الإنسان المثقف والإنسان المتعلّم ينبغي التفريق بينهما، وفقًا لما ذهب إليه عالم الاجتماع العراقي علي الوردي «إن المتعلم هو من تعلّم أمورًا لم تخرج عن نطاق الإطار الفكري الذي اعتاد عليه، فهو لم يزد من العلم الا ما زاد في تعصبه وضيّقَ من مجال نظره، آمن برأي من الآراء أو مذهب من المذاهب فأخذ يسعى وراء المعلومات التي تؤيّده في رأيه وتحرّضه على الكفاح في سبيله، أما المثقف الحقيقي فينماز بمرونة رأيه واستعداده لتلقي كل فكرة جديدة ليتأمّل فيها ويملي وجه الصواب حيالها»، والمثقف الحقيقي حسب إدوارد سعيد «من يمتلك دوره الفاعل في المجتمع، دورا لا يمكن اختزاله أو تصغيره؛ لأنَّه مطالب بتجسيد مواقف فكرية وفلسفية من مختلف القضايا الوجودية والحيوية في المجتمع، وعليه ضمن هذا التصور أن يتخذ موقف المواجهة والمجابهة لكل سلطة تقليدية ولكل المسائل والقضايا الحرجة في المجتمع»، بافتراض «أن النخبة المثقفة بحكم وعيها وموضوعية التفكير ووضوح الرؤية لديها قادرة على التحليل والمحاكمة المنطقية، مما يجعل المثقفين في حصن من أن تنطلي عليهم أساليب البرجوازية ومن أن يخيفهم تحكم المتسلطين، ومن ثم فإن هؤلاء المثقفين، هم وحدهم القادرون على تصحيح تلك الصورة في الوعي الجماهيري، ورسم الطريق الصحيح لتحقيقها في حيز الواقع الملموس»، فالمثقف فرد له وعي خاص ورأي خاص، ولا يكون الفرد مثقفًا إلا إذا كان الوعي الفردي مهيمنًا عليه.
وعلى وفق هذا المعنى الذي حدده الفيلسوف (محمد عابد  الجابري) يتضح لنا أن المثقف الحقيقي هو من ينظر إلى قضايا أمته من منطلق الوعي الذاتي بعيدًا عن أي منطلق جمعي. 
إذن المثقف هو صاحب الموقف الحيادي الحر، الرافض لكل أشكال الظلم والفساد، هو حامي قيم  العدالة والحرية والمساواة، المؤمن بحرية الفكر والرأي، وتقبل رأي الآخر هو صاحب الموقف والكلمة الصادقة والمبدأ الذي لا يحيد عنه مهما كلفه الأمر، وهو الذي يعيش ويتفاعل مع مآسي وآلام وأحلام العالم، حامل الوجه الواحد واللون الواحد البعيد كل البعد عن الخداع والمكر والمراوغة، والغدر، العصي على الخضوع والخنوع، الساعي إلى تحري الحقيقة وكشفها أينما كانت، لإيمانه أنَّه مطالب بهذا الأمر أمام الله والمجتمع، لا تحركه سوى الغيرة على عقيدته ومجتمعه وأمته، لتغيير واقعه نحو الأفضل، المثقف الحقيقي هو الذي يسعى لتحقيق هدفه المنشود وهو تثقيف المجتمع وتغيير المفاهيم والذهنيات وتحرير الفكر من  المعوقات التي تقيده أو ما يطلق عليه «صياغة الوعي العام». 
ويرى تشومسكي بأنّ «المثقف هو من حمل الحقيقة في وجه القوة»، أما إدورد شيلر فيرى أن المثقفين هم «قطاع بين المتعلّمين يسعون إلى صياغة ضمير مجتمعهم ليتجه اتجاهًا راشدًا ويؤثرون على القرارات الكبرى لهذا المجتمع»، أما  لويس فوير فيرى أنَّ «المثقف هو الشخص الذي تمتد أفكاره إلى نطاق أبعد من مهنته، ويهتم بالقضايا الحقيقة».          
ويقول هربرت ماركيوز في كتابه «نحو ثورة جديدة» : «موتُ المثقَّفِ يكمن في تخليه عن وظيفته المتمثلة في تحرير الوعي من الأوهام، ورفض الأوضاع السائدة.. إنَّ مهمّة المثقف هي صون الحقيقة من الضَّياع، المثقف هو من يرفض التسوية مع الفئات المسيطرة». 
ويقول جان بول سارتر «أينما حل الظلم فنحن المثقفون معنيون به». بهذا المعنى يضع سارتر ضمير المثقف، بصفته تمثيلاً فرديًا لحضور الضمير الإنساني الكلي فيه، أمام تحدي وضع الإنسان ومصيره.
إذ يتعين عليه – نعني ضمير المثقف – أن يكون ترمومترًا للتمييز بين العدل والظلم، بين الخير والشر، بين القبح والجمال، بين الحرية والقهر.
وهذا ما يراه الدكتور (سربست نبي). 
فالمثقف إنسان مستقل لا يخضع لسياسة الترغيب ولا الترهيب، ولا ينشد سوى الحقيقة، وبناءً على ما يمتلكه المثقف من تراكمات معرفية تقع على عاتقه مسؤولية أخلاقية ووطنية فالمثقف الحقيقي، ليس كائنا انعزاليا يعيش في برج عاجي؛ ولا يجب عليه أن يكون في آخر القافلة؛ بل يجب أن يكون بين الناس، وليس في أحضان السلطة والمال، عليه أن يدرك دوره الثقافي والاجتماعي والسياسي، وأن يسهم في تشخيص الخطأ وانتقاده، وتقديم الأفكار والحلول المختلفة لكل الصعاب، وأن يكون عونا للحكومة الحقيقية الجادة بالبناء والتنمية، ويمسك زمام المبادرة في توعية المجتمع ورفع مستوى الوعي الجماهيري عن طريق الإعلام، أو المحاضرات أو الندوات والمؤتمرات العلمية وورش العمل الثقافية. 
فالمثقف الحقيقي الحر المستقل الإرادة  المتجرّد من أي حزبية أو طائفية أو مصلحة شخصية، لا يمكنه، بأيِّ حال من الأحوال أن يبقى محايدًا ويلوذ بالصمت أمام ما يحدث أمامه في مجتمعه من فواجع وكوارث؛ بناءً على ذلك ليس للمثقف «الحق المطلق في أن يصمَّ أذنيه أو يغض الطرف عما يعتمل في داخل محيطه الاجتماعي، أو يكتفي بالتخندق في داخل التخصص العلمي الضيق، أو التبحّر الموسوعي البارد، في الوقت الذي تُحدق بمجتمعه أخطار مهلكة»، وفقًا (لمحمد أركون)، لكن لا تنتظر من مثقفٍ منضويًا تحت لواء السلطة عبدا للمال والجاه رأيا أو موقفا يساند أو يعبر عن قضية إنسانية؛ بل تجده خاضعًا خانعًا لأصحاب القرار والسلطة. 
ومن طريف ما يروى في هذا السياق، أن الأمير بشير الشِّهابي قال لخادمه يومًا: «إنَّ نفسيَ تشتهي أكْلَة باذنجان.
فقال الخادم: الباذنجان، بارك الله في الباذنجان؛ هو سيد المأكولات؛ لحمٌ بلا شحم، سمكٌ بلا حَسَك، يُؤكل مقليا، ويؤكل مشويا، ويؤكل محشيا، ويؤكل مخللا، ويؤكل مكدوسا.
فقال الأمير: ولكني أكلت منه قبل أيَّام  فنالني منه ألمٌ في معدتي.
فقال الخادم: 
الباذنجان؟! لعنة اللهُ على الباذنجان! إنه ثقيلٌ، غليظٌ، نفاخٌ، أسود الوجه!!  فقال الأمير الشهابي: بل ويحك أنت! تمدحُ  الشيء وتذمه في وقتٍ واحد؟! فقال الخادم: يا مولاي، أنا خادم الأمير ولست خادما للباذنجان! إذا قال الأمير: قلت له: نعم، وإذا قال: لا، قلت له: لا».
وهذه تنطبق على  كثير من مدعي الثقافة في وقتنا الحاضر.