ماذا وراء هذا الكلام؟

ثقافة 2022/03/06
...

  ياسين طه حافظ
وأنا أقرأ «أربع رسائل في التصوف» لأبي القاسم القشيري – بتحقيق الأستاذ الدكتور قاسم السامرائي. توقفت عند «منثور الخطاب في مشهور الأبواب «ومنه عند «باب القناعة». ماذا يقول هذا الشيخ الجليل في  القناعة؟، يقول ما يدعو للتساؤل ويدعو للتفكير، فأي ثقافة هذه التي  يبشر بها ويقنع ناساً أجلاء بحمايتها ونشرها – أي بتبنيها؟، وهل فطنوا لما وراء ذلك، أم نحن نطلب منه غير ما يعنيه. فهو رجل  زاهد يتحدث في الزهد؟.
 
حتى وهو يتحدث في الزهد يظل تساؤلنا ويظل اعتراضنا على مايخفي الكلام وراءه وبمن يريده أن يكون بعضا من إيماءات الناس وقناعتهم.
يقول الشيخ القشيري:
القناعة: السكون عند المجاعة والاكتفاء بالبُلغة والاجتزاء من المضغة. وهي سكون الجأش عند عدم المعاش. ويقول مكملاً:  والوقوف عن الكفاية والاعتقاد بأن الطلب جناية..
هكذا إذن السكون عند المجاعة. تَحمّل الجوع، إبقَ جائعاً وساكناً حتى تموت. ولا تغضب ولا تستأْ إذا افتقرت لأسباب العيش ومقومات بقائك حياً: سكون الجأش عند عدم المعاش.. ثم الطلب جناية! أي أن تطلب تكن 
مجرماً.
بقي أن يقول يجب أن تعاقب لجوعك أو لطلبك حاجة أو خبزاً أو ثوباً أو حماية.
لا أريد أن أحمّل قول الرجل الجليل أكثر مما أراد وأوسع ما قصد.
ولكن ما أوردته منه لا يستثني ناساً ولا يستدرك.
وهو ليس أول من قال به، وإن كان أول من قال به، فمضمونه وارد عند آخرين قبله 
وبعده.
مصادر هذه الثقافة مشوبة وثمة من تحكّم باتجاهاتها، أفاد مما يمكن أن ينفعه فيها. خطرها كونها ثقافة شعبية، وهي لم تكن أصلاً كذلك.
ثقافة خاصة هي توقع ضرراً لم تقصده.
فهي خطاب للمتصوفة الزاهدين لكن بهذا التحول صارت ثقافة تريح السلطة وتريدها، بل تؤسس لها ممرات انتشار، ليقرأها ويسمعها و «ليتعظ» بها العامة، أو الشعب أو الجياع أو المحتاجون ومن هم في محنة. عليهم: السكون وعليهم الاكتفاء بما لايكفي وعليهم ألا  ينجروا على طلب من متمكن أو وجيه أو صاحب ملك أو مال.
الطلب جناية.
وجناية تعني جرم أو جريمة!.
حين تتحول «ثقافات» النخب، أو التخصصات إلى ثقافة شعبية، يبدأ سوء الفهم: الثقافة الطبية يسيء استعمالها العوام ويصيبهم منها الضرر، وكذا الأمر في العلوم، ومن هذه أقوال الشيوخ، شيوخ التكايا أو شيوخ 
المساجد.
هنا نحتاج إلى ثقافة ظل تصحبها في المرور إلى الناس ثقافة تحدد المقاصد وحدودها والمعاني وحدود دلالاتها، وإلا أضرت وهي أرادت أن تنفع.
 مرة قرأت كتاباً في تفسير الأحلام لابن سيرين.
وقد وجدت في الكتاب المنسوب للرجل الفاضل ما يدعو للتوقف وتقليب العبارة على أوجهها لا أذكر النص بتمامه ولكنه يقول إذا حلمت بأنك تسكن في بيت من حجر أو  صخر، فهذا يعني أن صخوره وحجارته ستحول عليك جمراً يوم القيامة!، هو يدعو مثل القشيري للقناعة بسقف أو خيمة أو كوخ لأن الحجر يعني جمراً في الآخرة.  
ما أراه أن ثقافتنا الشعبية تحتاج إلى تنقية، إلى ثقافة كاشفة موضحة.
ثقافة رديفة تؤسس لما هو  صواب ونافع لا إلى ثقافة القمع والتجويع والاكتفاء بالأقل ولحاكمهم الرفاه والتبذير واللهو.
أنت عليك الاكتفاء بخرقة أو ستر.. الدعوة للزهد دعوة أصلاً للبراءة، للنقاء، لامتلاك الروح لا الانشغال بالفاني.. وفي اعتقادي الشخصي أنّها كانت ثورية خفية كان فيها حس ثوري، فالمقصود بها كان الحكام والخلفاء والسلاطين. 
إذ لا حاجة لأن توصي الفقير المعدم بالزهد. كان ذاك اتجاه الوصايا، قصدوا المفرطين بالرفاه المفرطين بالفقر وقدموا أمثلة من أنفسهم! لكنّه التحكّم وأنّه الجبروت وأنها، بلغة أبسط، المصلحة، حرفت الاتجاه إلى الناس وإلى من هو أصلاً معوز وأصلاً لا يملك ما يبذره وأصلاً لا يحتاج لأن توصيه  بالقناعة، فحاصل زرعه أو عمله أو وظيفته اليوم، بالكاد يسد احتياجاته..
الأكثر خطورة في أقوال مثل تلك محرفة الاتجاه، أنّها تقمع أي  حسٍّ بالاحتجاج أو بالتمرّد وأخيراً: سكون واكتفاء بالبلغة وتجزئة المُضغة... أين هذا من قولة أبي ذر الصريحة، من انفجار غضبه: إنّي لأعجبُ...، وأنتم تعرفون القول وتعرفون كم حقيقاً مباشراً كان، وكم وضع حداً لانحراف المواعظ التي أوقفت الناس قروناً في عوزهم وظلامتهم وافتقارهم حتى للخبز والثوب. كل ذلك والمطلوب منهم السكون عند الحاجة وعند المجاعة، وأن يزهدوا بالدنيا لتبقى الأموال والقصور والرفاه والعافية للخلفاء والسلاطين وللملوك وأصحاب الجاه. 
حسناً لم يقولوا لك هو حكم الله لهم، وعليك أن تطيع أمر الله وتكتفي كما يقول شيخنا القشيري بالبلغة والاجتزاء من المضغة.