الشخصيَّة العراقيَّة بين ثقافتين متقابلتين

آراء 2022/03/09
...

  د. عبد الواحد مشعل
أضحت الثقافة الريفيَّة والحضريَّة في العصر الحديث ثقافتين متقابلتين وتسيران جنبا إلى جنب في خطين متوازيين غير متقاطعين لكنهما متفاعلان مع بعضهما البعض، ولعل هذه الحقيقة تفسر لنا هوية الثقافة الريفية بخصائصها وسماتها المعروفة خلال التاريخ، إلا أنها ليست الوحيدة على الساحة البشرية.
 
كما أن ذلك يفسر هوية الثقافة الحضرية بخصائصها وسماتها المتغيرة والمائلة نحو الفردية والعقلانية، إلا أنها أيضاً ليست وحيدة على الساحة البشرية، وعلى الرغم من المحاولات الكثيرة التي جرت والتي تجري لفهم الفروق الريفية، بناءً على سمات وضعها علماء الاجتماع والانثروبولوجيا، وصل بعضها إلى الصفر كما هو الحال في المدن الصناعية الكبرى الموغلة في الحضرية، فإن عملية فهم تلك المسألة لا تخرج عن كون الثقافة الريفية بحدودها الصغرى جدا لا تنفصل عن عملية تفاعل مستمر مع الثقافة الحضرية. 
فإذا كان الأمر كذلك في المجتمعات المتقدمة جدا فكيف لنا أن نقف ونقول إن هناك فروقا جوهرية في مجتمعنا العربي بين المدينة والريف، بسبب حركة تحضر أو تزايد عدد سكان الحضر وفق المقياس الإداري، الذي يرى أن كل مركز مدينة أو قضاء أو محافظة حضر، وما عدا ذلك ريف كما يمكن أن يؤخذ على أساس عامل المحكات، سواء كانت محكات ثنائية أو ثلاثية، فإن الأمر في هذا الميدان يقوم على أساس وجود تأثير متبادل ومباشر بين البنية الحضرية والريفية، وهذا يؤشر في أبرز جوانبه على أن الثقافة الريفية لها امتداداتها الواضحة في المرحلة الراهنة في مجتمعنا العراقي، وللثقافة الحضرية امتدادات موجودة أيضا لكن ليس بقدر متساوٍ مع امتداد الثقافة الريفية في السلوك الاجتماعي.
لذا فنمط الشخصية العراقية في الوقت حاضر لا يفسر فقط من خلال الصراع بين البداوة والحضارة، الذي تكلم عنه الوردي في وقت مضى، لان هذا الصراع لم يعد بتلك الصورة وتلك الحدود الواضحة، لان الثقافة الريفية أضحت متوغلة في المدينة بشكل كبير، لذا فان إي دراسة استطلاعية تحاول الوقوف ميدانيا على بعض الخواص، التي يظهر فيها تأثير الثقافة السائدة في الشخصية العراقية الراهنة لفتح الباب واسعا أمام دراسات أُخرى توغل أكثر في هذا الجانب، إذ تعيش المدينة والقرية في المجتمع العراقي أزمة حقيقية تصل الى درجة يصعب الفهم معها، لا سيما درجة تأثير الثقافة فيهما لصياغة شخصية عراقية واضحة المعالم، سواء على أساس وضوح خصائص حضرية أم وضوح خصائص ريفية، إذ اتجه الأمر إلى طغيان الثقافة الشعبية والريفية على حياة سكان المدينة بطريقة مقلقة، حتى ذهب البعض إلى الحديث عن ترييف المدينة العراقية. 
أي توغل أنماط وسمات الثقافة الريفية في عمق المدينة والعمل على ترييفها، ويرجع البعض أسباب تريف المدينة إلى أسباب سياسية، ترتبط بنمط العقلية الحاكمة في كثير من المجتمعات العربية، ومنها المجتمع العراقي الذي عاش صراعا مريرا على مستوى النخب الحاكمة أو السياسيين الجدد بين الريفيين والحضريين بعد ثورة 14 تموز، وبالتالي طغيان الثقافة الريفية على الذين حكموا العراق والذين مثلوا ثقافة النخبة وتضاءلت أمامها فرص ظهور ثقافة حضرية ذات معالم واضحة، وفي الحقبة التي انتعش فيها الاقتصاد العراقي نسبيا وهي حقبة السبعينيات بسبب نجاح بعض الخطط التنموية، وهي تمثل حقبة الانتعاش الاقتصادي، إلا أن هذا النجاح النسبي سرعان ما عاد وانتكس مع دخول البلاد بصراعات وحروب لا طائل منها، سوى الدمار والاستنزاف منذ عام 1980 حتى الوقت الحاضر، كما أن لهذه الظاهرة أسبابها الاقتصادية، التي عملت عملها في تراجع السلوك الحضري تحت وطأة الفقر والحرمان.
ولعل هذا يفسر تراجع كثير من تلك القيم الحضرية التي كان لها مواقف مقدرة في الشخصية العراقية خلال حقب مضت، ولا تقل الأسباب الاجتماعية عن ذلك، فالتراجع الذي أصاب التعليم والصحة والخدمات ترك آثارا خطيرة على الثقافة العراقية، سواء في الريف أو في الحضر، ولاشك أن هذه العوامل وغيرها لا تعمل منفردة إنما تعمل متفاعلة مع بعضها البعض في كشف مدى تأثير الثقافة الريفية والحضرية في الشخصية العراقية في الوقت الحاضر.