انتفاضة آذار 1991 .. ربيعٌ عراقيٌّ مبكر

آراء 2022/03/09
...

  د . صادق كاظم 
 
في ربيع العام العام 1991 وبعد نهاية صفحة الغزو الدامي الذي قام به النظام البعثي الإجرامي لدولة الكويت وخروجه مهزوما منها، شهدت مدن العراق في الشمال والجنوب اندلاع أكبر انتفاضة شعبية معاصرة وكبيرة لإسقاط النظام، وذلك عندما هاجم أبناء المدن العراقية المختلفة مواقع ومراكز النظام القمعية والسيطرة عليها، والتي كانت إيذانا بنهاية سلطة هذا النظام الإجرامي والقضاء عليه.
أسباب الانتفاضة عديدة وكثيرة، لكن أكثرها أهمية مرتبط بالسلوك القمعي والإجرامي لهذا النظام وطبيعته الدموية، إذ عمل هذا النظام ومنذ وصوله إلى السلطة بعد انقلاب تموز من العام 1968 على التمسك بالسلطة شعارا وهدفا للبقاء فيها بأي ثمن، اذ تبنى ستراتيجية تقوم على فرض الطابع البوليسي للسلطة وتجنيد آلاف المخبرين وتحويل منظمات حزب البعث الفاشي إلى مكاتب أمنية وبوليسية تعمل على مطاردة المواطنين وملاحقتهم وتجنيدهم في التشكيلات العسكرية المختلفة بالإكراه والقوة.
لم يستوعب النظام بعد نهاية حرب الخليج الأولى عام 1988 أن العالم قد تغير خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق وظهور ما يعرف بالنظام العالمي الجديد، وبروز الحاجة إلى اجراء اصلاحات ديمقراطية يقدم من خلالها النظام تنازلات تتسم بقدر مناسب من الحريات السياسية والحزبية، والسماح بظهور الأحزاب والصحف المستقلة، وكذلك اجراء انتخابات تعددية نزيهة تؤدي إلى وصول مستقلين من خارج دائرة السلطة إلى البرلمان. كل هذه التغييرات المطلوبة لم يعمل النظام على الأخذ بها، بل أخذ يكرس أكثر ثنائية العائلة – القبيلة والتي شهدت قيام النظام بتوزيع المناصب والسلطات الأمنية الحساسة بين أفراد العائلة الحاكمة، التي شهدت بدورها صعود أفراد وحراس مغمورين إلى قمة السلطة، وتولي مناصب أمنية وزارية في سابقة لم تحدث في تاريخ الدولة من قبل.
كانت العقلية العسكرية الاستبدادية تهيمن على سلوكيات النظام، الذي كان يشعر مع وجود فائض من القوة العسكرية والسلاح لديه بالحاجة إلى تحويل هذه القوة إلى أعمال عدوانية، بدلا من التفكير بإعادة إصلاح الأوضاع الاقتصادية في البلاد وتطويرها وتنويع مصادر الدخل وتحقيق الرخاء والازدهار ونبذ سياسات الحروب. كان غزو الكويت العمل الأكثر إجراما وحماقة في التاريخ، وذلك عندما اخترق النظام الثوابت السياسية المهمة في العلاقات الدولية عندما استباح أراضي الكويت والإعلان عن ضمها إلى العراق، رغم خطورة هذا القرار وقيام الولايات المتحدة نتيجة لذلك بالتصدي، ومن خلفها أغلب دول العالم والمجتمع الدولي لهذا الغزو، وتعريض العراق لأقسى عقوبات دولية جعلت غالبية الشعب تعاني الفقر والعوز والجوع أيضا، ولم تنفع شعارات النظام بالصمود والقدرة على هزيمة التحالف والتي كانت شعارات فاشلة وغير منطقية.
كانت هزيمة النظام واندحاره في الكويت وتعريض العراق إلى أكبر موجة هجمات جوية في تاريخ الحروب الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية، الشرارة التي ألهبت الجماهير وأطلقت العنان لقيام المواطنين بحمل السلاح ضمن شعور وطني جماعي بأن هذا النظام المسؤول عن كارثة الكويت ودمار العراق يجب أن يرحل، وبدلا من أن يتعامل النظام بواقعية مع مطالب الجماهير قام مستغلا وقف إطلاق النار ليقوم بتوجيه قواته الأمنية التي لم تتعرض إلى القصف الجوي إلى المدن المنتفضة لسحقها والقضاء عليها، مستغلا صمت المجتمع الدولي وعدم قيامه بدعم الثوار والانتفاضة، حيث قام النظام من خلال المجرمين من أعوانه الذين كانوا أكثر استعدادا للقيام بالأعمال الإجرامية، إرضاءً للطاغية بشن أكبر حملة إبادة بشرية، حيث تم اقتياد المواطنين العزل إلى مقابر جماعية جرى دفنهم فيها أحياء، إضافة إلى قصف المدن المنتفضة بالصواريخ والمدفعية الثقيلة وإبادة سكانها من دون اية مراعاة او اعتبارات إنسانية حتى.
الانتفاضة كانت ربيعا عراقيا استباقيا، حين حاول الشعب العراقي إسقاط أحد أكبر الأنظمة الشمولية الدكتاتورية في المنطقة، لكن الظروف والمتغيرات الدولية والإقليمية وضعف خبرة الثوار وعدم وجود قيادوة موحدة ودعم دولي وإقليمي، قد اسهم في إجهاضها، لكنها كانت ولا تزال واحدة من أكبر الملاحم الوطنية البطولية في تاريخ العراق وشعبه.