العاطفةُ المكانيَّةُ

ثقافة 2022/03/18
...

  محمد صابر عبيد
تشترك الموجودات كلها في الصفة العاطفيّة التي لا بد منها كي تكون الحياة قابلة للعيش وممكنة على صعيد الفعل والمشاركة مع الآخر، وإذا كانت الموجودات الحيّة هي الأكثر قرباً وتمثلا لهذه الحقيقة الوجودية فإن الموجودات غير الحيّة تواجه إشكالا فلسفيّاً كونيّاً على هذا النحو، إذ هل يمكن للجمادات التي هي في أساس وجودها أشياء تشغل أمكنة كثيرة على نحو ثابت 
ودائم أن يكون لها عاطفة من نوعٍ ما؟ وهل بوسعنا أن نقارب هذه الموجودات على النحو الذي يسوغ لنا تحسس لون 
عاطفيّ معين كامن في أعماقها؟ 
 
يتقدّم «الجبل» على سبيل المثال بوصفه كينونة وجوديّة شديدة الثبات والوجود والحضور والانتماء إلى الأرض التي تحمله على مرّ العصور والدهور، فمن أين يمكن أن يأتي بالعاطفة على ما في هذا الشيء من اختلافات وتباينات بين جبل وآخر، ولا سيّما أنّ المكان الجبليّ بطبيعته مكان مرتفع لا يمكن للعين الرائية أن تحيط به ما لم ترفع خطّها البَصَريّ نحو الأعلى، لجعل حساسيّة الرؤية قادرة على الإحاطة بالموجود المكانيّ وهو يرتفع فوق مستوى النظر.
تنفرد العاطفة دائماً بأعلى درجات الغموض والإضمار والاستتار على الرغم من وضوحها عندما تفيض بها أدوات الجسد لأيّ سبب فاعل، إذ لا أحد من علماء النفس أو الاجتماع أو العلوم الإنسانيّة الأخرى المشغولة بالنفس البشريّة وما يحيط بذاتها من إشكالات؛ أفتى بمعرفة العاطفة وتحديد مفهومها على نحو واضح وجليّ ذي قدرة إقناعيّة حجاجيّة أصيلة، لأنّها شعور داخليّ جوّانيّ يتمتّع بدرجة عميقة من الغموض ويتعلّق بالروح الإنسانيّة والجسد الإنسانيّ في آن، ومن الصعب تشريح العاطفة وتحليل مستوياتها وإبراز طبقاتها على وفق أدوات علميّة دالّة وحاسمة لفرط اتصالها بمراكز ذاتيّة وموضوعيّة ملتبِسة لا يمكن ضبطها أو حصرها.
يتحوّل المكان إلى منجم عاطفيّ لا ينضب حين يزخر بعلاقاته الإنسانيّة مع البشر بأسمى آيات الوجدان والانتماء، وبما أنّ الإنسان لصيق بالمكان على نحو أصيل وحيويّ ودائم فلا بدّ لأحدهما أن يأخذ من الآخر، بصرف النظر عن طبيعة هذا الأخذ وشكله وكمّيته وطريقته وحالته وظرفه ومعادلته، إذ يتأنسن المكان على هذا النحو ويستعير كثيراً من الصفات الإنسانيّة التي تتسرّب إليه عن طريق العاطفة، بحيث تتكوّن للمكان المؤنسن لغة وعاطفة وخيال ورؤيا يستعين بها الإنسان بوصفها سنداً قويّاً لا نظير له، فمن لا مكان له لا أساس له ولا حضور ولا قيمة ولا هُويّة ولا قدرة على التعبير عن ذاته بحريّة وإرادة.
يمكن معاينة العاطفة بوصفها دليلاً حيّاً على إيجابيّة الإنسان بشرط أن لا تتعدّى الحدود الطبيعيّة وتصل إلى درجة الانسياح، لأنّها في هذه الحالة ستنتج إنساناً ضعيفاً غير قادر على مجابهة الحياة والتفاعل معها بالقدر المطلوب من التوازن، وقد يلعب المكان دوراً بالغ الأهميّة والخطورة في تمثيل العاطفة إنسانيّاً، فثّمة أمكنة ذات طبيعة قاسية تخلق إنساناً في درجة عالية من التحمّل والمقاومة والصبر، كي تكون عاطفته موازية للحال التي يعيشها بحيث لا تشتغل العاطفة التقليديّة عنده بأعلى درجات كفاءتها، بينما تراكم أمكنة أخرى أكبر قدر من العاطفة في الذات الإنسانيّة بِحُكمِ طبيعتها الانسيابيّة الميسورة، فيتحوّل إنسانها إلى كيان عاطفيّ شديد التأثّر بالمتغيّرات من حوله فاقداً لجزء مهم من صفات الصمود والصبر والمقاومة، فتتبعُ العاطفةُ المكانَ وتتزّيا بأزيائه وتتلوّن بألوانه لتصبح ضمير المكان ويصبح المكان ضميرها.
تصنع بعض الأمكنة عاطفة مريضة تصل إلى درجة مرض نفسيّ يدعى «هومسِك»، يجعل المريض يحنّ حنيناً استثنائيّاً للمكان على نحو لا يمكنه نسيانه ولو لحظة واحدة، بحيث لا يسعه العيش بعيداً عن مكانه الأنموذجيّ المفضّل فيضطرّ في الأحوال كلّها إلى العودة إلى هذا المكان الأم للشعور بالقدرة على الاستمرار بالحياة، وقد تكون قضية «البكاء على الأطلال» في الشعريّة العربيّة القديمة صورة من صور التعلّق بالمكان الزائل، على الرغم من أنّه تحوّل في هذه الشعريّة إلى موضوع شعريّ أصيل لا يمكن للشاعر العربيّ القديم تجاوزه.
تصنع أمكنة أخرى عاطفة قويّة وشرسة تنقلب على ضرورات الحنين وتتجاوزها في مسيرة نحو افتتاح الأماكن واختراقها –وربّما التلاعب بها- في ظلّ رغبة عارمة للكشف المكانيّ المتواصل بلا توقّف وبقدَمَين عارفتَين قادرتَين على العبور من فوق العاطفة المكانيّة، فثمّة من هو قادر على تغيير مصيره في الحياة بحيث يكون المكان أوّل ضحيّة من ضحايا هذا التغيير، حين يتمكّن من تفعيل طاقة النسيان بأعلى درجات كفاءتها وهو يمضي نحو الأمكنة الجديدة برغبة شديدة القصديّة للمضي قُدُماً نحو الآتي والجديد دائماً. يتجلّى المحتوى المكانيّ على الصعيد العاطفيّ في كثير من المفردات والتفاصيل والرؤيات، ويمكن تفكيك هذا المحتوى في منظوره العاطفيّ بوساطة مقاربة شبكة من المفاهيم نقترح بعضاً منها هنا، مثل «نغمة المكان» وما تعكسه من إيقاع خاصّ يحوزه كلّ مكان على نحو مختلف ومغاير، وثمّة «هواء المكان» المتغيّر بين لحظة وأخرى على نحو له صلة وثيقة بالطبيعة والوجود الإنسانيّ النوعيّ، وثمّة «لون المكان» وهو يتغيّر بين حال وأخرى بحسب قوّة حضور العاطفة وحجمها وصيرورتها، فللمكان هوية ومقصد؛ ومنهما تتشكّل العاطفة المكانيّة حتماً.