الزمن والثقافة

ثقافة 2022/03/18
...

 أحمد شرجي
 
قامت السيميولوجيا بتفتيت الكليات الكبرى للثقافة إلى وحدات أطلق عليها اسم (السمات الثقافية). إن أسلوب تبادل التحية بين الأفراد وطرائق سلوكهم اليومي وصيغ فرحهم وحزنهم، هو أسلوب لتحليل ثقافة المجتمع الذي يعيشون فيه. وقد تكون هذه الطريقة هي السائدة لمعرفة الثقافة المسيطرة في مجتمع ما، لكنها غير كافية لدراسة الثقافة والشخصية اللتين تعملان ككليات متشكلة من اتحادات ثقافية كبرى تتفاعل وتتداخل في ما بينها. وهو ما يصطلح على تسميته بـ (الأنماط الثقافية).  ولا تعمل السمات الثقافية في حالة عزلها عن بعضها البعض، بل تعمل متحدة لتشكل نمطاً متجانسا يعمل بروح الجماعة، في إطار النمط الاجتماعي الذي يشير إلى نمط السلوك المتكرر للفرد داخل المجتمع، مثل: تناول وجبات الطعام، ومواعيد الأكل، والنوم، وتنشأ الثقافة وتنمو داخل مجتمع ما، ويظهر ذلك جلياً في سلوك الأفراد. تمتاز الثقافة بالاستمرارية، لأنها قادرة على تخليد نفسها من خلال التراكم والتعاقب، حتى لو اندثر الإنسان الذي أسهم في تشييدها. ورغم أن الثقافة خارج نطاق التركيب الطبيعي للفرد، فإنها ­بواسطة التتابع الزمني­ تصبح جزءاً من شخصيته. الثقافة موروث اجتماعي يسهم فيها كل أفراد المجتمع، لأن العادات والتقاليد الخاصة للمجتمع تنتقل ويتم تداولها عبر الزمن. والثقافة توافقية، لأنها توافق بين البيئة الجغرافية والشعوب المحيطة بها. الثقافة مكتسبة، فجوهر الثقافة عند الإنسان هو التعلم. اقترنت الثقافة بالزمن التاريخي، مما سهل عملية التعرف على ثقافات الشعوب وعاداتها، وتقاليدها، وعلاماتها الاجتماعية. لكن هناك زمن آخر للثقافة مغاير لعمقها التاريخي، وهو زمن الثقافة المتحول، أي: الزمن الجيلي. وهنا لا يمكن أن نحدد الجيل بحقبة زمنية محددة، لأن هناك مثلا: أجيال الكوارث الطبيعية، وجيل الحروب، وجيل النكسة العربية، وجيل الثورات العربية، وما يرافق ذلك من تغير كبير على مستوى العادات والتقاليد. وحتى لغويا، يتم تتداول مفردات خاصة، قد تندثر مستقبلا لأنها ترتبط بالحدث الذي رافق الجيل. ويُولّد الزمن الثقافي لجيل ما ثقافتين، داخل الثقافة الواحدة، وهما: الثقافة الترحيلية لأنها تُرحل من جيل إلى جيل. وتقتصر العملية الترحيلية على الإنسان، فهو الكائن الوحيد الذي بإمكانه أن ينقل ما اكتسبه من عادات وتقاليد إلى أقرانه. والثقافة الجيلية، هي ثقافة الجيل التي تشكل خصوصيته الثقافية. فلكل جيل علاماته وإشاراته الخاصة. وتحمل الثقافة الجيلية حمولات الثقافة الترحيلية من خلال العملية التراكمية لبعض ما ترسخ بواسطة التداول المجتمعي لثقافات الأجيال السابقة. وتشكل الثقافة الترحيلية والجيلية قضية أكثر شمولية واتساعا، وهي الهوية الاجتماعية التي أنتجتها خصوصية الأجيال. وتتميز هوية الجيل بتنوع انتماءاته داخل النسق الاجتماعي. ولا تقترن الهوية الاجتماعية بالأفراد فقط، إذ لكل مجموعة هويتها الاجتماعية التي تتوافق مع تعريفها الاجتماعي، الذي يحدد موقعها ضمن الكل الاجتماعي. فـ «الهوية تبدو.. كَكيفيِة تصنيفِ التمايز (نحن/ هم) قائمة على الاختلاف الثقافي».
يمثل التمايز السمة الأبرز التي تحملها الهوية الاجتماعية والثقافية، لأنها تُعرف بوساطتها. ودليل ذلك أن أغلب قبائل شمال أفريقيا، تعمل على تأكيد هذا المفهوم وتفرضه على أفرادها بواسطة علامة وشم الوجه، ولكل قبيلة علامتها الثقافية الخاصة التي تمكن من التمييز بين «نحن» و«هم». وليس الانتماء إلى الهوية الاجتماعية ­هنا­ اختيارا، بل أمر تفرضه الثقافة والموروث الاجتماعي للجماعة. وتختلف الخصوصية الثقافية داخل المجتمع من جيل إلى آخر، لأنها محكومة بالزمن والتطور، وهو ما يشكل الثقافة الجيلية التي تمثل جزءا مهما من الثقافة العامة للمجتمع. ويعد كل شكل تعبيري ثقافة، نظرا لقابلية الثقافة على التشظي. وتتناص الثقافة وظيفيا مع العلامة، فلا يمكن وجود مدلول من دون دال. فاشتغال الثقافة داخل المجتمع تقترن بعمليتها الترابطية. وتتغير العلامات باستمرار حسب سياقها الاجتماعي واللغوي، مما يمنح النص امتياز التعددية الدلالية والتعارض. وتقع الثقافة بين حدين وهما الخاص والعام. فالخاص ينتمي إلى المجتمع، بينما ينتمي العام إلى الإنسانية. فلكل ثقافة شخصيتها التي تميزها وتتمايز بها عن سواها من الثقافات. أما مصدر ذلك التميز أو تلك الخصوصية فهو البيئة الاجتماعية الخاصة التي تنشأ في كنفها وتعبر عنها. ورغم التسليم بالطبيعة الكونية للثقافة، فإننا نحتاج إلى تعيين تلك الكونية تعيينا دقيقا. فالكونية لا تعني المطابقة الكاملة في الشخصية الثقافية، أو التماهي التام بين الثقافات. فإذا كان هناك ثمة عام مشترك بين الثقافات، فإن كل مجتمع يعيش ذلك العام بوصفه خاصا فيضفي عليه خصوصية مميزة. فالعلامات الثقافية تشتغل بشكل فاعل ومميز بسبب عوامل التاريخ والاجتماع وهي العوامل التي لا تخضع لقانون المماثلة.