الأمُّ السُّومريَّة.. أسرارٌ وخفايا

ثقافة 2022/03/22
...

ناجح المعموري
ابتدأ الدرس الأول للمرأة/ الآلهة الأم الكبرى وتعلمت من حياتها الجديدة التي أخذتها إلى الفعل. فبعد أن هبط من السماء، أدركت بحسّها بالإمكان أن يؤدي الرجل دور السماء، الذي أشارت له كثيراً من النصوص الشعرية السومرية. الأولى وقت استراحتها من العمل بالارض وضرورة ترطيب جسدها. قالت عالمة الاجتماع كاميلي باليا رأياً اجتما ــ ثقافياً رائداً، مهماً دور المرأة وحضوراتها وغياب الرجل واستمرار قوتها في رسم التحولات في الحياة والعالم، حتى اللحظة التي اضطرت فيها لتعليم الآخر/ الفحل، الاتصال الادخالي. وعندما اكتشف اللذائذ، لم يعد قادراً البتة التعطل عن ممارستها، لان جسد المرأة هو الواهب باستمرار، وعلى طول، مثلما هي الأرض. 
لذا أذكر بما قالته كاميلي باليا ثقافياً عند الاشارة للسبب الجوهري، الذي جعل التراجيديا غير محتفية بالمرأة وهذا متأتٍ من الطبيعة التي لم تحتفِ بالمرأة فتوحد المرأة مع الطبيعة كان توحداً شاملاً في العصور قبل
التاريخ. 
إذ نجد في مجتمعات ــ الصيد أو الزراعة المعتمدة على الطبيعة، أن الأنثوية كانت تحتفي بها ويتم تمجيدها كأساس بارز للخصوبة. ومع تقدم الثقافة وفرت الحرف والتجارة نوعاً من تركيز الموارد ومن شأن هذا تحرير الرجل من نزوات الطقس أو تعويق الجغرافية. مثلما تراجعت الطبيعة خطوة واحدة عن المشهد، كلما تقهقرت أهمية
الأنثوية. 
يثير رأي كاميلي باليا رأياً مهماً وهو لا وجود للمرأة في التراجيديا فهي مكتفية بدور البطل/ الرجل. فلا دور للأنوثية في التراجيديا لأن مجالها الكبير هي الأرض، منذ اللحظة البدئية الأولى. ومثل هذه العلاقة وفرت فرصاً عديدة للأنثى من أجل أن تحوز ما تجود به الارض من ثمار. وتضع ما تحتاجه لإشباع حاجاتها ورغباتها، والمحافظة على استمرارها ومثل ذلك دور الكيمياء في تصنيع العطور والألوان والخمور ومثل هذا الابتكار الجديد والعظيم، اكتسبت المرأة أدواراً مغايرة وغير مسبوقة، حتى تتمكن عبرها من استدعاء المذكر واستمرار إغرائه، لأنها بحاجة أن يظل جسدها الأنثوي، ليناً ورطباً ومرناً مثل الأرض. ومثل هذه التمظهرات تفضي نحو حياة السخرية والضحك.
وباستفادة من باشلار، الليونة تنتج مرونة ومراوغة واستدعاء، ومشاكسة لكنها تنتهي بالترويض مستقبلاً. إن ماء الحياة «نوع من المسكرات» هو المادة الوحيدة القريبة من مادة النار، وذلك بين جميع المواد في العالم. إنها النار المتحركة الحقيقية، النار التي تلهو فوق سطح الكائن والتي تلهو بجوهرها، بالذات متحررة من ذات نفسها. إنها النار البهيجة للمدججة، النار الشيطانية في مركز الدائرة العائلية. فالنار التي تحرقنا تنيرنا فجأة، فتغدو الحب عائلياً. وهي من النوع الذي يمكن
تدجينه. 
ما زالت الطبيعة مقترنة كلياً بالمرأة/ وحققت عن طريق المقدس تناظراً جوهرياً وبارزاً. 
واكتشفت المرأة أسرار الطبيعة وما توفرت عليه من مواعيد ومواقيت، لها صلة بالحرث ونثر البذر والإنبات، هذه معاً أسرارها التي لا تمنحها إلا لمن يعشق العلاقة معها، حتى المخفيات التي لم تتكشف سريعاً. كما ظلت ساعيه ــ المرأة ــ من أجل الغور وراء العلائق الخفية. وانتقلت هذه المعارف عن طريق التبادل، أو بشكل أدق بواسطة كاهنات اللواتي كن منذ البداية صلة الوصل بين عالم البشر وعالم الآلهة وكذلك لعبت المرأة دور المعلم الأول في التاريخ
الحضاري.
المرأة أكثر حسّاً بالمخفي وألما من الرجل، وأكثر منه إيماناً بالقوى الإلهية وأكثر شفافية روحية. كانت سيطرة الأم على الحياة الدينية سيطرة على عالم يموج بالأسرار والخفايا.. هي أم القمح تهب أهل الظاهر قوت يومهم. وفي المستوى الثاني هي أم الخمر والمستحضرات المخدرة. المستحضرات في النباتات وينقلب لديها الطبيعي والمادي إلى روحاني علوي كما قال فراس السواح. 
تمركز نظام الخصب في البنية الذهنية الأسطورية العراقية القديمة. وتكرس بحضور فاعل ومتسع. حيث تبلورت عناصر الألوهة، وتحولت طاغية على عناصر الإله إنكي ــ على سبيل المثال ــ والذي لم يستطع مقاومة غضبة الأم الكبرى التي مارست عنفاً ضده، ومن لحظتها تعلم الإله „إنكي“ أن مجاله الوحيد/ والصحيح للاتصال من أجل الخصب هو الأم الكبرى/ ننخرساك.
عبر ثنائية العلاقة بين الأب إنكي والأم السومرية، تحولت دلمون المقدّسة من مكان قاحل، إلى بلد فيه شروط الحضارة، حضارة انتقلت اليها بواسطة الأب/ انكي، والأم/ ننخرساك: (مقدسة هي... لكن دلمون أيضا بلد مقدس/ دلمون بلد مقدس! دلمون بلد منوّر/ عندما استقر في دلمون في فريدته/ هذه المنطقة، عندما استقر فيها إنكي مع نينسيكيلا/ اصبحت هذه المنطقة منوّرة
وطاهرة).