علمنة النص بين شبستري وسروش

آراء 2022/03/23
...

 علي المرهج
 
فهم النص هو القراءة البشريَّة للنص بعبارة شبستري، أي أن الألفاظ والمعاني التي يفهمها قارئ النص، هي ليست بالضرورة مطابقة لقصد صاحب النص أو منتجه، بمعنى آخر يحمل مفهوم (فهم النص) في طيَاته رفضاً لكل قراءة أحادية تدعي أو يدَعي أصحابها، أنهم هم وحدهم من لديهم أسرار النص ومعرفة مقاصده الحقيقية.
إن هذا الفهم الأحادي للنص أو الفهم (الدوغمائي) إنما هو يحمل بذور وجود فهم آخر مُناهض له، بحكم نزوع أصحابه للإقصاء والتنوع والفهم الآخر، وهو بالتالي على الرغم من ميل دعاته لتكبيل النص وتقييده، إنما فعل له رد فعل، بمعنى أنه يوَلد فهما أحاديا يُنتج ما يتضاد معه أو نقيضه، ليكون عندنا له فهم يُغايره عند آخرين يساويه في نزعة مقدار الفهم ويُعاكسه في 
اتجاهه. 
كل فرد أو جماعة مشاكلة فكرياً تطرح فهماً وفق فرضية لها مقبولية في الفضاء السائد: الاجتماعي واللغوي والعلمي والفكري، وهُناك فهم آخر يُطرح وفق تأويل وفهم له، ذات المقبولية في أوساط اجتماعية مناظرة أو مقابلة لهذه الجماعة، وباختلاف الفرضية المبنية على فهم للواقع المجتمعي وأساليب اللغة ونحوها وفضاء المعرفة الفكري والعلمي.
وفق هذه الرؤية تتعدد الأفهام ويختلف المعنى في فضاء التداول البشري والمجتمعي ـ ولربما ـ تقترب الأفهام أو تبتعد عن مقاصد النص الحقيقية بحسب مقدرة الفرد أو جماعته من التمكن والقدرة الاستدلالية، ولا يبقى الحال على ما هو عليه، فقوة الفهم ترتبط بتطور الوعي الاستدلالي لقارئ النص.
مقتضيات التجديد والعلمنة
ـ وجود مشكلات حياتية مُستحدثة يصعب إيجاد تفسير لها وفق النصوص المؤسسة بعبارة أركون، الأمر الذي يدفع بعض المفكرين للبحث عن سبل جديدة للتعاطي مع هذه المشكلات، والعمل على تبيئة النص بعبارة محمد عابد الجابري بما لا يخل في محمولات معانيه القدسية، بما يجعل من هذه المعاني الكائنة أو الظاهرة في النص تُحافظ على حيويتها ودفقها الإنساني.
ـ ظهور أنظمة واتجاهات ومناهج معرفية جديدة (حداثية) أو (ما بعد حداثية)، تمنحنا فهماً جديداً للنص، تجعل من معرفتنا له معرفة مُتجددة وخلَاقة، تُضيف لمعطياته ثراء في المعنى ومقبولية عند الآخر المُختلف، بما لا يخل بقصد المشرّع ولا يفقد النص قيمته القدسية، ويجعله حاضراً وفاعلاً في سياقات خارج سياقات البيئة التي أنتج فيها هذا النص، ليكون مُشاركاً عبر الفهم في المعرفة الإنسانية.
ـ الوعي بـ (عقم المذهب التاريخي) بعبارة (كارل بوبر)، حينما لا تستجيب رؤى الفهم التقليدي للنص لمُتغيرات الحال والأحوال، الأمر الذي يدفع بعض المفكرين الأحرار من المؤمنين بصلاحية هذا النص لكل زمان ومكان للبحث عن فهم جديد يكسر الإطار الأيديولوجي والعقائدي بنزوعه الأحادي، لتجاوز (أسطورة الإطار) بعبارة (كارل بوبر أيضاً) للكشف عن فهم آخر للنص يُخرجه من إطار (القوقعة الفكرية) بعبارة علي الوردي، كي يكون حاضراً بقوة في بناء وعي جديد لا يحيد عن متبنياته الوحيانية ويبقى فاعلاً على كل الصُعد الاجتماعية 
والفكرية.
ـ الوعي باستقلال الأخلاق عن الدين، لأن الأديان لا تُعلَم الناس الحُسن والقُبح بتعبير (عبدالكريم سروش)، بل وظيفتها "الكشف عن أن هذه الأمور الحسنة محبوبة لله تعالى، وتلك الأعمال القبيحة والسيئة مبغوضة لله تعالى"، ولهذا يُمكن القول إن "الأخلاق تتطابق من جهة تاريخية مع الدين، لكنها لا تستند منطقياً إلى الدين".
علمنة الدين عنوان يبدو متناقضاً في الوهلة الأولى، كما يذهب عبدالكريم سروش لا استفزاز فيه للمتدينيين، فالعلمانية تعني عنده "تطابق إدارك الأنبياء مع ما وصل له العقلاء، لأن الأنبياء اكتشفوا التوافق بين مطلوب الله والعقل، وما الأنبياء غير طريق مباشر لمعرفة الله تعالى، فخبر الأنبياء أنهم أعلمونا بأن امكانية أن نسلك طريق الحق يضمنه السير وفق ما أخبرونا به، أو وفق إدراكنا العقلي لهذا الطريق، وهو قول يتوافق أو ينسجم مع فلسفة ابن رشد حينما قال (الشريعة حق) و(الحكمة حق) والحق لا يُضَاد الحق، بل يوافقه ويشهد له. 
فطريق التعاليم السماوية بحسب (سروش) هو ذات الطريق الذي يسلكه العُقلاء، بعيداً عن مُقتضيات الأهواء والشهوات الفردية.
مقاصد الإيمان لا تتعارض مع مقاصد العقل، "فالمؤمنون لا يتحركون في طريق يختلف عن طريق عُقلاء الناس".
الإنسان العاقل هو الإنسان الفاضل = الإنسان المؤمن هو الإنسان الفاضل، وبهذا فالربط بين المؤمنين والعقلاء هو الفضيلة، والفضيلة منبع الأخلاق وأصلها بعبارة (برغسون)، ولكن هذا لا يعني مرادفة الأخلاق للدين، فكل دين ينبغي أن يكون أخلاقياً، ولكن ليس كل ما هو أخلاقي يلزم أن يكون دينياً، لذا تكون مهمة الدين متماهية مع قول الرسول الأعظم (إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق، بمعنى أن مكارم الأخلاق موجودة قبل الإسلام، ولكن أهل الجزيرة العربية يحتاجون لدفع وحياني لإتمامها.
في ضوء ما سبق، يُمكن لسروش افتراض أن القول بـ "علمانية الدين" من ايجابيات الدفاع عنه لا كما فهم (المتطرفون) أنها مُناقضة له، لأن العقلاء الذين لا يسيرون وفق شهواتهم لا تناقض عندهم مع المؤمنين، الذين يسيرون مع الله ولا يتبعون شهواتهم، فكلاهما قريبان من طريق الحق.
تعامل شبستري مع الدين بطريقة مشابهة لسروش في النظر للظاهرة الدينية على أنها ظاهرة، تستمد حضورها من فاعليتها وحيويتها في المجتمع، لذا هو يرفض التعاطي مع مقولات الدين، كما نتعاطى مع مقولات العلم، فليس من الإنصاف إخضاع التجربة الدينية، بل وحتى التجربة الاجتماعية لمقولات علمية وفق تطبيقات الفلاسفة التجريبيين أو الوضعيين المناطقة، لذا يحاول شبستري التعامل مع الظاهرة الدينية، وفق المنهج الظاهراتي الذي وظفه (شلايرماخر) عبر قراءته لـ (هوسرل). 
بمعنى النظر الظاهرة الدينية بوصفها مؤثرة في الحياة الفردية للإنسان المُتدين، الذي هو في الوقت ذاته إنسان يعيش في مجتمع وزمان ومكان مُعينين، ولغة وثقافة ترتبطان ارتباطاً وثيقاً بالواقع الاجتماعي، لذا نجد أن التجربة الدينية في اليابان أو الهند أو غيرهما تُفهم وفق سياقاتها الثقافية والتاريخية لهذا المجتمع الذي وجدت فيه.