ما تُدينُ به الفرنسيَّة للعربيَّة

ثقافة 2022/03/25
...

  كامل عويد العامري
 «عندما يستيقظ الفرنسي في الصباح، أولى الكلمات التي ينطقها كلمات عربية، حين يطلب القهوة بالسكر 
أو من دونه.. لذا فهو يتكلم العربية من دون أن يعرف ذلك» فالعربية تأتي في المرتبة الثالثة بعد الإنكليزية والإيطالية، فهي، (كنز فرنسا) كما يقول جاك لانغ وزير الثقافة الأسبق، ومدير معهد العالم العربي بوصفها 
«لغة فرنسا لأكثر من خمسة قرون».
 
(أسلافنا العرب، ما تُدينُ به الفرنسية للعربية) كتاب جان بروفوس الأستاذ في علوم المعاجم وتاريخ اللغة الفرنسية بجامعة سيرجي بونتواز، الذي صدر عن (دار جيه سي لاتيس، باريس، مارس 2017) ليعزز فيه ما سبقه ويثير أولئك (الذين يتظاهرون بنسيان أن المسيحيين العرب كانوا يصلّون في الكنيسة بلغة الجاحظ). إذا كان بيير لاروس، الذي أحتفل بذكراه المئوية الثانية قبل بضع سنوات، يحب غرس المعرفة في كل مكان، فإن جان بروفوس لديه شغف بالمشاركة. يأخذنا هذا الخبير في رحلة ممتعة. متتبعا تاريخ ما تدين به اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية في مجالات معجمية مختلفة. من المشمش إلى الصفر، مروراً بالجبر، الكحول، علامة، شمعة، قهوة، كيمياء، عيار، جمارك، شطرنج، فرصة، تنورة، أرجواني، متجر، تدليك، زنبق الماء، بيجاما، مضرب، شراب، تعرفة، خزامى، ذروة، هذا القاموس للكلمات الفرنسية ذات الأصل العربي (يسترجع تاريخ ما يقرب من 400 مصطلح، من خلال أصلها وتطورها الإملائي واستخداماتها القديمة والحديثة... الزراعة وعلم الحيوان وعلم الفلك أو علم النبات أو الطب أو الرياضيات أو فن الطهو أو الصيدلة، هذا يعني جميع مجالات المعرفة أو الحياة اليومية قد تأثرت بهذا التهجين اللغوي منذ قرون، مزين بمختارات من النصوص تتراوح من رابليه إلى هوليبيك المعاصر. 
صحيح أن الصحافي والروائي صلاح قمرش قد سبق جان بروفوس بعمله الشهير: «قاموس الكلمات الفرنسية ذات الأصل العربي (والتركي والفارسي) المنشور عام 2007 وكذلك ألان راي (قاموس روبير)، مع كتاب «رحلة الكلمات: من المشرق العربي والفارسي إلى اللغة الفرنسية» صدر عام 2013. فضلا عن ذلك، إن جان بروفوس يقتبس في مستهل كتابه، عن   قمرش: «هناك ضعف وربما ثلاثة أضعاف الكلمات الفرنسية هي من أصل عربي مما فيها من عدد الكلمات من أصل غالي!».
وهكذا، فإن كتاب «أسلافنا الغال» من تأليف إرنست لافيس (17 ديسمبر 1842 - 18 أغسطس 1922)، الذي كان أستاذًا في السوربون - الذي استُخدمت كتبه التاريخية في فرنسا حتى عام 1956 في المدارس الفرنسية - أصبح قديماً للغاية. ولم يتبق من اللغة الغالية وكهنتها، سوى عدد قليل من الكلمات الهزيلة - أرض، صلاة، طين يابس، كثيب... تتعلق كما نرى بالتضاريس. وهو القائل: «كان أسلافنا الغاليون» برابرة قبل كل شيء ومن دون الرومان والحضارة العربية، التي سقت كل العصور الوسطى، لكانت النهضة قد تأخرت». 
وجان بروفوس معجب باللغة العربية مثله مثل أنطوان فوريتييه، 1619- 1688، الأكاديمي ومؤلف المعاجم و»القاموس العالمي» الذي أعرب عن إعجابه بالدقة والغنى اللغوي للغة العربية وأشاد بغزارة معجمها وإبداع علمائها. غير أن بروفوس يريد الآن أن يكون «رسولًا للوئام» فـ «بقدر اللغات التي تتكلمها، بقدر ما تحسب للبشرية حسابا»؟ ويقتبس من آلان ري: «مثل موكب من ملوك السحرة وهم يحملون إلى أوروبا ثروات الشرق، لقد أثرى كنز من  الكلمات للعربية الوسائل اللفظية التي سمحت لنا بتسمية العالم».
تأخذ هذه الرحلة التنويرية المكونة من 400 كلمة القارئ إلى عالم البستانيين والطهاة (مشمش، أرز، قطن، تمر هندي، كمون، ياسمين، خرشوف، باذنجان، إلخ) ثم إلى رحلة الحرفيين والتجار وإلى مدينتين، هما الموصل وغزة، بعمقهما التاريخي ومنهما الموسيليني والشاش الفرنسيتان، لتذكران بالأداء الصناعي والتجاري الذي كانتا عليه!، ولا ننسى اسكافي قرطبة - الخبير في فن الجلود مع فاس - أو السيوف الدمشقية من دمشق.
ولا ينسى مفردات الجسد والعطور والأحجار الكريمة والطيور والكيمياء وعلم الفلك والنباتات والبحرية والموسيقى والحروب. وحتى في علوم الكومبيوتر، تصادفنا العلامة arobase - @، والأرقام، والخوارزمية... ويوضح، هذا الباحث الانتقائي، أن هذه المصطلحات العربية قد اكتسبت بسهولة مكانتها، مستشهدا ببرتقال ألفونس دوديه، وطيور قطرس بودلير، وزنابق الماء لفيرلين، بل حتى الخليفة هارون البسيط والوزير إزنوجود (في سلسلة القصص المصورة إيزنوجود، التي أنشأها رينيه جوسيني وجان تاباري.)! واراغون في (مجنون ألزا) الذي يقدم صورة جميلة: مجنون يحب جنونه ويضيع الطيب بين الأصابع هو ذا كلام غرناطة الفكر كي ينظم على قرص اسطرلاب ما أجهل كنهه دورته مقطعا مقطعا يضيع لأنه من دون مسطرة alidade في عمق سماء كبرى.
عند قراءة هذا العمل تكتشف حقائق مذهلة: من كان يشك في أن “التنورة”، التي أصبحت موضع جدل هنا وهناك، وصلت إلى فرنسا في نهاية القرن الثاني عشر من “الجبة”؟. ثم تأتي كلمة Bougie من الشمع المنتج في منطقة Bougie. ولا علاقة للقنطار باللاتينية quinque (خمسة) ولكن كل شيء مع Quintar العربية (وزن مئة وحدة) لقد دخلت اللغة الفرنسية في بداية القرن الثالث عشر من خلال اللاتينية في العصور الوسطى، والقنطار. كان يساوي مئة رطل، واليوم مئة كيلوغرام. هذا هو التناقض في الكلمة العربية التي تم استيعابها جيدًا بحيث تبدو لاتينية».
يجب أن نتخيل تأثير الحضارة العربية على العالم الغربي من خلال إسبانيا. بين اللحظة التي نزلت فيها القوات المسلمة على شبه الجزيرة الأيبيرية، مروراً بالمضيق الذي سيحمل فيما بعد اسم جبل طارق، ولحظة سقوط مملكة غرناطة عام 1492، في النهاية، مضى أكثر من سبعمئة عام، وهي فترة طويلة من الزمن ساعدت على تعريب إسبانيا، وأصبحت مثابة تتابع حقيقي لبقية دول أوروبا.
 
من المفيد التذكير بأنه في ظل دولة الأندلس، كان المسيحيون قادرين على الاستمرار في ممارسة شعائرهم الدينية. من هنا جاءت كلمة “المستعربة” التي تشير إلى المسيحية العربية، وحتى الفن المسيحي في إسبانيا الذي ظهر فيه تأثير الزخرفة الإسلامية بوضوح، لا سيما في القرنين العاشر والحادي عشر. تأتي كلمة Moz›Arab الإسبانية القديمة من كلمة عربية صريحة للغاية، “مستعرب”، لأنها تعني ببساطة “مُعرَّب”. ومن خلال ذلك مرت الكلمات، عبر المكتبات والمدارس والجامعات، خاصة مكتبة قرطبة الشهيرة. هذه المدينة، التي تم احتلالها عام 711، سرعان ما نافست بغداد بشكل فعال، حتى أصبحت لمدة ثلاثة قرون عاصمة فكرية وثقافية بامتياز. لذلك من المهم أن نضع في الاعتبار أنه في القرن العاشر، احتوت مكتبة قرطبة على ما لا يقل عن 400 ألف مجلد، بما في ذلك الأعمال الثمينة للكتاب والعلماء اليونانيين التي لا يمكن العثور عليها إلا هناك. وفيها أُكتشف العديد من الأعمال الهندوسية والفارسية، ومن خلال اللغة العربية، نقلت المعرفة التي لم تعرفها بقية أوروبا أو فقدتها. لذلك ليس من المبالغة أن نضع قرطبة في مكانة عالية للذاكرة والنقل بين الشرق والغرب. 
فهي واحدة من أكثر المدن اكتظاظًا بالسكان في أوروبا حيث يبلغ عدد سكانها أكثر من 300 ألف نسمة، وربما 500 ألف، ناهيك عن ستمئة مسجد، وأكثر من تسعمئة حمام عام، فيها من مظاهر الفخامة والحداثة في ذلك الوقت. قصدها العديد من العلماء من أوروبا للإقامة في هذه العاصمة الفكرية للاستفادة من ثروة المكتبة، التي تعج بالأعمال العلمية في العلوم والآداب، وكذلك بالمجموعات الأدبية، وخاصة المكرّسة للشعر العربي. وذهب الفرنسيون أيضًا إلى قرطبة للتواصل المباشر مع كبار العلماء والأطباء وعلماء الرياضيات والكيمياء والفلاسفة العرب.
في قرطبة أو حتى في طليطلة، كانت الحرف والأعمال نشطة للغاية. ومن بين أمور أخرى، تطور صناعة الجلود في قرطبة، لدرجة أن اللغة الفرنسية لا تزال تحمل آثارها من خلال كلمة cordouan الإسكافي، المشتقة من كلمة Cordoue التي تعني من “قرطبة”، المدينة المزدهرة التي اشتهرت بجلودها. كان لجاذبية كلمة “cordon” أن أصبح (الاسكافي) في بداية القرن الثالث عشر ثم صار (صانع الأحذية) منذ عام 1255، عندما فُقدت العلاقة الاشتقاقية المدينة.
يقول ريجيس دوبريه “أساسا بدأ العالم العربي الإسلامي مع عصر النهضة وانتهى بالعصور الوسطى. نحن [الغرب] ذهبنا في الاتجاه المعاكس”، ويقول أحد النقاد: “كتاب جان بروفوس ذو منفعة عامة”.