رسام الضوء والمشاعر

ثقافة 2022/03/27
...

ستار كاووش

نطلع اليوم على لوحة فنان من الريف الأميركي، انشغل بمناخاته الخاصة وتقنياته المتفردة ومعالجاته المُلهِمة، إنه الفنان أندرو وايث، الفنان الساحر والمحبوب وصاحب الشعبية المذهلة في أميركا والعالم.
ينظر هذا الفنان إلى المشهد الذي يرسمه، كمن ينظر إلى مشهد سينمائي، حتى تظن أنه يختبئ في إحدى زوايا كوخه الخشبي وينظر للخارج من فتحة في الجدار الخشبي، كما يحدث في أفلام رعاة البقر.
لوحتنا هنا هي (الحالم) التي رسمها سنة 1952 والموجودة في متحف تيسن بورنميزا بمدينة مدريد، ورسم فيها صبياً جالساً في الهواء الطلق، حيث امتلأت كل خلفية اللوحة بالأعواد الناعمة المتداخلة للعشب الأصفر الجاف، وليكسر رتابة التكوين، جعل جانباً صغيراً من الأفق يظهر في أعلى اللوحة.
الرسام ينظر إلى المشهد من نقطة مرتفعة، بينما يَثبت الصبي الحالم نظره إلى الجانب، بقبعته المصنوعة من الفرو، التي يتدلى ذيلها على سترته الداكنة التي منحت اللوحة قوة واستقرارا.
الصبي يشبك يديه ويذهب بخياله بعيداً، وهو لا يعرف ما ستؤول إليه نتيجة الرسم، والفنان الواثق يمضي بثبات وهو يضع الرقشات واحدة تلو الأخرى بفرشاته 
الناعمة.
الهدوء يملأ المشهد كعادة أغلب أعمال وايث، لكنه هدوء يتلاءم مع شخصية هذا الفنان الذي عاش كل حياته في الريف منشغلاً بلوحاته التي تتلاقفها المتاحف فور خروجها من المرسم.
تنطوي أعمال أندرو وايث على سحرٍ وخصوصية عالية، وباليت ألوانه شخصي جداً، وألوانه ترابية كأنها لون الأرض، وهو يستخدم غالباً ألوان التيمبرا الممزوجة بالبيض، وتقنيته التي يعالج بها اللوحات تسمى (الفرشاة الجافة)، التي قدم لنا من خلالها لوحات تبدو واقعية من أول وهلة، لكن حين نمعن فيها النظر ونتأمل الضوء والتفاصيل الدقيقة التي تشبعت بها، نُحلّق معها في مناخات غامضة ومن نوع خاص، إذ تحمل كل واحدة من هذه اللوحات كمية عالية من المشاعر والعاطفة التي تشير إلى عزلة الناس وانسجامهم مع الأماكن العادية والقديمة، وحتى البالية في ريف بنسلفانيا.
حصلت الكثير من لوحات وايث على شهرة واسعة في العالم، ومنها لوحته (عالم كريستينا) التي صارت واحدة من إيقونات الفن الشهيرة، بعد أن رسم فيها جارته وهي تزحف نحو بيتها الذي يقع في مكان مرتفع، لأنها كانت مصابة برجليها، وكانت اللوحة بمثابة تحية لشجاعتها برغم المصاعب والظروف القاسية التي تحيط 
بحياتها. 
نادراً ما نرى رساماً في كل تاريخ الفن قام برسم الضوء كما رسمه أندرو وايث، ولا سيما الضوء الساقط على الجدران والوجوه والتفاصيل الصغيرة، وقد خصص وايث كل وقته وحياته لفنه، ولم يضيع دقيقة واحدة تقريباً من دون الانشغال بالرسم والتهيئة لأعمال جديدة، وكانت متعته الوحيدة خارج المرسم، هي زيارة جيرانه في بعض الأوقات، إذ يجلس هناك وهو يتأمل زوايا الغرف والأقداح التي تستقر على الطاولات والضوء الذي يدخل من النوافذ، والتماع الأرضيات الخشبية، يتأمل ذلك بصمت -كما يذكر جيرانه- ليخرج مسرعاً مثل الشبح من دون أن ينتبه إليه أحد، منطلقاً نحو المرسم ورأسه مليء بالكثير من التفاصيل التي يحاول إدخالها في لوحاته الجديدة.