شعرٌ يقولُ كلَّ شيء

ثقافة 2022/03/28
...

  علي محمود خضيّر
 
يحلمُ الشاعر بكتابة كتابٍ يقول كلّ شيء. يضم ما كان للسابقين وما يكون للاحقين. حشد كلمات يبدأ ولا ينتهي، مثل كتاب بورخيس لا نهائي الصفحات. هل تقول الكتابة؟ وما معجزة الشعر غير كتابة (صميميّة) تُطارد كل معنى ولا تقول شيئاً في النهاية. حاولتُ تقصي ذلك الكتاب وأنا أجمع قراطيس باذبين من مخازن الآباء ومحاريب المريدين. ورأيتُ أن الكتابة قد تعني استعادة كتاب ضائع، يضم بين دفتيه مقادير الشاعر المحتومة. ومقالتي هذه ضرب من تذكير أخوتي وحثهم على البحث عن كتابهم الخاصّ.
غير أنّ الشعر الذي يغطّي كل شيء قد يجيء بكلمتين فحسب. هكذا، فقط، تقع الدهشة، مثلما تضمُّ العالمَ في راحة كفك. الشعر غير معني بالوفرة، قد تكون "اللحظة العابرة أبدية صغيرة" كما أشارت شيمبورسكا يوماً. إن قدرة الكتابة على تخطّي صاحبها معجزة محض. تماماً كما تكون ضحكة المرأة أجمل من المرأة. وظلال الشجرة أعمق من الشجرة. إن ما يحدد لا نهائية القصيدة ليست أفكارها، ولا البنية الفنية، فحسب، بل الكيفية التي تجيء فيها (فرادة) فكرة القصيدة وبنيتها الفنية معاً. وهو حدث يقع خارج حساب المؤلف. المؤلّف نفسه مجرّد ذريعة لتحقق القصيدة (الفريدة) المحتوم. وهو، أي المؤلّف، إن كان زمانه ومكانه، محدودين سلفاً، ومؤقّتين، فإنّ القصيدة تتعامل مع الزمن المطلق والمكان المطلق. 
هذا التحقّقُ غامض، غير مُدرَك من فاعِله، الشاعر. هل كان دانتي يعي الكوميديا الإلهيّة وقت كتابتها؟ لكل شاعر تحقّق شعريّ فريد، واحد، في العمر، يتجاوز به نفسه، المحظوظ من يهيئُ له الأسباب. هذا التحقّق سيرتبط بكاتبه لاحقاً ويعرف به مثل لازمة، نحن نقول "أنشودة مطر" السيّاب، و"أرض يباب" إليوت، و"إشراقات" رامبو.
ولأنّ لكلٍّ تحقّقه/ مفهومه، فإن تعريف ذلك التحقّق والبرهان عليه متعذر، إلّا من خلال النص من جانب، ومتعدد، فالشعراء عادة ما يترددون في الحديث عن مفهومهم والإشارة إلى لحظة تحقّقهم من جانب آخر، حتى يصحَّ القولُ إن لكل شاعر مفهوماً للشعر، وكلّ قصيدة محاولة في تعريف الكتابة الشعرية.
على هذا النحو يقترب الشعر من تدوين الـ (كل شيء) حين يتجاوز المألوف من مسالك الكتابة، حين يغلق تلك الأبواب التي تلمع مقابضها من شدّة فركها بأصابع شعراء الاتِّباع والتدوين المأمون مرة بعد مرة طلباً لصولجان الاستئثار بعاطفة الجمهور وبريق الجوائز واسترخاء القوالب الجاهزة. 
لقد ضيّع المفهوم الجمعي لماهيّة الشعر، والمسيطر منذ ألفي سنة على تفكير/عقلية الشاعر والمتلقّي العربيّينِ، الطريق إلى الاختراقات الفردية لشعراء يتبعون حدسهم الخاص في تدوين قصيدتهم. مَن طَرقوا الأبواب اللا مرئية في الكتابة تجريباً ضيّعتهم صنميّة الدرس النقدي وطبيعة الشخصية العربية في التشكيك في الجديد، إهماله أو تجاهله. 
في قصة بورخيس "كتاب الرمل" يخبر الضيف الغامض والقادم من "أوركاداس" بطل القصة بأن صفحات الكتاب الذي يعرضه عليه غير متناهية بشكل واضح، "لا واحدة منها هي الأولى ولا واحدة منها هي الأخيرة"، ويضيف بأن "السلسلة اللا متناهية تقبل أي ترقيم ما دامت غير متناهية". هل تكون القصيدة اللا نهائية، والتي تقول كل شيء، قابلة لأي رمز وترقيم ومعنى ما دامها غير محدودة؟ وأيّ حدٍّ نريد؟ حدّ اللغة، حدّ المعنى، حدّ الكلام الذي عليه أن يتكلم بتعبير هايدغر؟، للشاعر أن يخترق الحدود كلها، على أن يظل تحليقه داخل حدود الفن. ومن يرى أن لا نهائية القصيدة تأتي من لا نهائية الكلام، فَلْيتذكرْ تخليصَ الكلام ذاتِه من محدداته.
إن إحاطة القصيدة باللا نهائي يتطلب تجاوزاً لمحدوديّة الرموز والعلامات، كتابٌ يقول كلّ شيء هو كتابٌ بلا كلمات ولا حروف.