استحقاقات بناء الإنسان العراقي

آراء 2022/03/28
...

 نعمة العبادي
 
تدور معظم الفعاليات الحكومية بأشكالها المتنوعة، بمدياتها المختلفة، حول العمران ومخرجاته، وفي أحسن الأحوال تتجه نحو تحقيق الاكتفاء والاستقرار، وفي صور نادرة تضع الرفاه هدفا لها، ومن خلال رصد هذه الفعاليات، فإنها تراهن على الموارد المادية وحسن إدارتها ومكافحة الفساد، كغاية عليا لتحقيق الاصلاح بأعلى مستوياته، ومع كل هذه التوجهات لا نتلمس تغييرا حقيقيا يمس الأعماق، وينتج تحسنا واضح المعالم والآثار. من وجهة نظرنا، هناك جملة مدخلات لهذا العجز والتلكؤ  إلا ان الأهم فيها يتمثل في طبيعة رؤية المجتمع العامة إلى الحياة، وما هو شكل ونوع الحياة التي من المفترض أن يحياها، وما الدور الذي يلعبه الأفراد تجاه هذه 
المهمة؟
يطغى الموت بوصفه مآلا حتميا على نظرة مجتمعنا العامة، إذ غدا الموت هو الأساس والحياة هي الطارئ، ولم تكن هذه النظرة قائمة على أساس فلسفة الزهد والتعالي عن المظاهرالمادية، بل هي نمط من العجز واليأس المبرر بحتمية الموت، والذي يدعمه واقع، ويغذيه بشكل خفي من  خلال شيوع مظاهرالموت ومسبباته كسمة عامة لتاريخنا وحياتنا.  تتعلق النظرة إلى الحياة بطبيعة التنشئة البيئية والمدرسية وكافة الفعاليات الاجتماعية التي تغذي الوعي العام في جميع المراحل العمرية، وفي مقدمتها الرموز الحية التي تمثل منارات للإقتداء والاهتداء والنمذجة، الأمر الذي جعل الموت مقدما كمهيمن علوي على التوجه العام، ومتغلل بشكل خفي في مفردات السلوك الفردي والجماعي، ويكاد يخلو واقعنا من رموز حقيقيين لصناعة الحياة والجمال، فلا يمثل الجمال بمعناه العميق مطلبا معرفيا تنشده مسيرة التعلم التي يتخذها الأفراد، كما أن هناك تراجعا وإهمالا كبيرا له على  المستويات كافة، ولم تقدم ثقافتنا وأنساقها المختلفة رؤى عن الحياة والجمال على شكل جرعات يتلاقاها الأفراد بشكل منتظم، بل يتوقف الأمر على المهارات الفردية والظروف الخاصة، والنتيجة أننا أمام واقع وتفكير لا تحتل أسئلة الحياة  والجمال الضرورية إلا حيزا محدودا في أحسن الأحوال. ذات الإشكالية يتسم بها الخطاب في مستوياتها وأشكاله المختلفة، فحضور الموت أبلغ وأوضح وأعلى صوتا من حضور الحياة، فضلا عن غياب الجمال كهدف وکفلسفة تقوم عليها المقولات الفرعية للحياة. إن الإدارة الناجحة للموارد ومكافحة الفساد وتحكيم مبدأ العدالة والمساواة مداخل مهمة وضرورية في عملية البناء وإصلاح الخراب، إلا أنها لم ولن تبلغ محلها المنشود ما لم تكن مسبوقة بعملية تغيير عميقة للمنظور العام للحياة وأهميتها ومكانة الجمال، بوصفه الدالة التي ينبغي أن تتجه إليها كل الفعاليات العامة.
لقد أنجزت السينما والمسرح والفعاليات العامة الكثير معظم هذه الاستحقاقات في الغرب، واستطاعت أن تروض الكثير من مظاهر الغرائزية الجامحة، كما أنها فاقت دور الكنيسة في الكثير من المجالات، كما أن الرواية والأدب بأشكاله المختلفة ساهم في صياغة النمط العام للنظرة الكلية للمجتمع، وعلى أساس ذلك، تمَّ تصميم العمليات التعليمية بمستوياتها المختلفة، حيث كانت المعرفة شرطا لازما لأي منها.
لا يحتاج إلى مزيد من الجدل، أن هذا الغرب الذي نتحدث عنه بهذه الصورة، متورط بفضائح وسلوكيات مشينة وسيرة ذاتية غير مشرفة، إلا أن النظرة العميقة تظهر لنا بأن السياسة التي مثلت أداة الحصول على الثروة والسلطة كانت التيار المعاكس، الذي سحب هذه المجتمعات إلى استحسان القبح تحت منطق المصالح، وقد ساهم في هذه النتيجة تراجع الدور الروحي لمؤسسات الإيمان والتقوى، فضلا عن الإفراط في النظرة المادية، الأمر الذي لا يمكن النظر إلى الغرب كما هو بوصفه القبلة المنشودة، إلا أن تجربته في صناعة الحياة والجمال تستحق الدراسة والنظر، قابلة للاقتباس من الكثير من أجزائها في هذا المجال تحديدا.  إن النظرة إلى الحياة والجمال لم يصنعها الساسة ولم ينتجها منطق الدولة وإن ساعد في نموها، ولكن الفكر والفلسفة والأدب هي التي أنتجتها عندما تغيرت وظيفتها من التقوقع في أروقة المدرسة الامبيريقية، إلى كونها مسؤولة عن طرح أسئلة الحياة الضرورية والبحث عن إجابتها، والذي سهل بدوره أن تتحول إلى ثقافة تطبع الحياة وترسم أنساقها.
 لقد انشغلت النخبة كثيرا (هناك) بأسئلة الحياة والجمال، ونزلت إلى ارض الواقع، واهتمت بالمثال والحالة، وأعادت التجارب، وانفتحت على جميع الطبقات في نتاجها، فلم تكن الجامعة مجرد إطار مدرسي للطلبة وحسب، بل مختبر معرفي، تثار فيه أسئلة الحياة وتحدياتها، وهكذا كانت السينما والمسرح والرواية وشارك الرسم والنحت والموسيقى وكل الفعاليات في هذا النقاش العميق. 
إن أول خطوات البناء الحقيقي ينبغي أن تبدأ من تصحيح دور النخبة المستغرقة في جدل اليوميات السياسية حد التيه، والعودة إلى دورها الحقيقي في الانشغال بجدل أسئلة الحياة والجمال، والتي تنتج رؤى ومسارات تعيد تصحيح النظرة العامة المستغرقة بفلسفة الموت، وتوجه المجتمع نحو صناعة الحياة والجمال، وهو المنطلق الحقيقي والأوحد لعملية التغيير العميق لإنساننا ومجتمعنا.