سلطة الموروث الديني

آراء 2022/03/28
...

 د. صائب عبد الحميد
 صحيح أن مقولة (غلق باب الاجتهاد) عند أهل السنة أصبحت من الماضي، فبعد التمرد المبكر عليها، منذ العز بن عبد السلام وابن تيمية وابن القيم الجوزية، تجدد القول بلزوم الاجتهاد الذي هو حق لكل جيل من دون توقف، إذ استقر على ذلك معظم الفقهاء المعاصرين، بدءا بمحمد عبده، ثم علال الفاسي والطاهر بن عاشور، غير أن هذا الأمر لا يزال في حدود المسألة الكلية. وإلا فما هو الاجتهاد المطلوب أو المسموح به، هل الاجتهاد الحر المطلق، أم الاجتهاد وفق أصول ومقررات المذاهب المعروفة، سواء على مستوى الفقه أو على مستوى الكلام؟ 
 
 الغالب والسائد هو الاجتهاد المقيد في صورته الاخيرة.
وفي حال كهذه سوف لا نشهد اجتهادا بالمعنى الحقيقي للاجتهاد، وسوف لا يتعدى الاجتهاد الجديد مسائل فرعية وجزئية في حدود فتاوى تتعلق بتكليف الفرد ازاء مسائل طارئة أو مستحدثة.
 وفي المدرسة الشيعية حيث يتبنى الفقهاء مبدأ الاجتهاد المطلق نظريا، الا أن الواقع الفعلي للاجتهاد لا يختلف عن شقيقه في المدرسة السنية، فليس في البين خروج على القواعد المعدة في القرون المتقدمة من عمر الفقه الشيعي، وليس هناك أكثر من حلول لقضايا طارئة أو جزئية على المستوى الفردي نفسه.  هذا على مستوى الإطار العام والسائد، أما على مستوى التجديد والإبداع فقد شهد القرن العشرين جهودا تجديدية فردية لا يستهان بها، فهناك التجديد في علم الكلام الذي ظهر بقوة عند محمد عبده في كتابه (التوحيد) وإقبال اللاهوري في(تجديد التفكير الديني في الاسلام) ومحمد باقر الصدر في(أصول الدين).  والتجديد في الفقه على مستوى المنهج عند علال الفاسي والطاهر بن عاشور في فقه المقاصد، وعند الصدر نفسه تحت عنوان روح الشريعة والنظرية الإسلامية. ومن المهم ملاحظته أن كل هذه الجهود ما كانت لترى النور لولا الانفتاح الواعي على نتاج الفكر البشري الحديث والمعاصر. لكن مشكلة هذه النتاجات المهمة أنها لم تفلح في تأسيس مدرسة قادرة على مواصلة الجهد وتطوير المنتج الفكري، وذلك عائد بالدرجة الأولى إلى الظروف الموضوعية المحيطة بها، فالمؤسسة الدينية لم تكن قادرة على مواكبة هذه الحركة بفعل انغلاقها ولو نسبيا على نفسها وبعدها عن مسرح الحراك الفكري العالمي بشكل عام.  من ناحية ثانية لأن مستوى الوعي العام ومستوى الحراك الاجتماعي للشعوب والمجتمعات الاسلامية، ليس مهيأً لنقلة نوعية وتغيير جذري على هذا المستوى، فالركود والخمول أو القهر والاستبداد، التي تهيمن على الواقع المجتمعي لا تخلق فرصا لتحفيز العقل وإثارة القلق الفكري الضروري للنشاط العقلي، وتقبل التغيير الجذري.
هذا الركود والخمول ساعد عليه وجذّره شيوع ثقافة التمسك بالموروث بحذافيره، لا سيما وأن القسم الأعظم من علماء الدين يعملون على تكريس هذه الثقافة، ثقافة تقليد الموروث الفقهي والكلامي، دون النظر إلى العوامل التاريخية التي أسهمت في انتاجه.
من هذا وذاك يتوجه السؤال صوب معاقل انتاج الفكر الديني، هذه المعاقل التي ماتزال تضرب حول نفسها سورا منيعا يفصل بينها وبين النتاج الفكري البشري بتشعباته واتجاهاته المتعددة، باعتباره يمثل خطرا حقيقيا يتهدد موروثنا الفكري، في معادلة فهم مغلوطة كثيرا، فكأن مهمة علماء الدين في كل عصر هي حماية التراث الذي أنتجه السلف بإبداعاتهم وإجاباتهم على أسئلة عصورهم المنصرمة، وليست وظيفتهم حماية الدين نفسه والاجتهاد في قراءته وتفسيره وفق ما يتيسر من معطيات جديدة للقراءة والتفسير لم تكن متيسرة في عصر سابق.
أو كأن الدين ما هو إلا التفسير الذي قدمه السلف لهذا الدين.