زينب.. رواية المتضادات

ثقافة 2022/03/29
...

 باسم عبد الحميد حمودي
تقودنا الرواية الأولى للدكتور عارف الساعدي التي صدرت تحت عنوان (زينب) إلى اختراق التابوات الأساسية في السرد العراقي القديم، ومنها العلاقة بين الأديان وإشكالات التصالح لا الصدام بينها ثم الدخول عبر السرد الى (أرض الميعاد اليهودية) والتخلي عنها.
 
عارف الساعدي يقدم في روايته هذه شخصيات إشكالية لا تتشابه مع سواها، وهذه واحدة من أسباب (طراوة) الأحداث واستفزازها للعادي والسليم مع الواقع الذي تغير.
 في الكنيس اليهودي الموجود في هلسنكي وقف المرابي اليهودي يدعو الله وسط عدد من المصلين وبينهم سعاد اليهودية الكربلائية وابنتها زينب في رواية (زينب) ص157 (أسمع يا إسرائيل، الرب الهنا، رب واحد، فتحب الرب إلهك. من كل قلبك ومن كل نفسك.. ولتكن هذه الكلمات التي أوصيك بها اليوم على قلبك، وقصها على أولادك...) تقول زينب عن أمها: (هي تعرف كل الأماكن المقدسة، وكأنّها هي من بنت هذه الأماكن، تسير مغمضة العينين الى «الحر» حيث سكنوا قريبا منه..).لكن (سعاد) هذه يهودية تماما تصلي الصلاة اليهودية منذ زمن بعيد من دون أن يعرف بها أحد من أسرتها القريبةّ!.
 تمضي أحداث رواية (زينب) وفق هذه الإشكالية الاعتقادية لتبني معطيات مختلفة عن سائر الأعمال الروائية الأخرى.. إذ ماذا يعني أنك (تملك) دينين ومعتقدين سماويين؟ 
 كانت أسرة (سعاد) اليهودية العراقية من الأسر التي أخفت هويتها الدينية الأساسية لتجد في (الإسلام) ملاذا يقيها شرور السلطة، ولكن ابنتها (سعاد) حفر الإسلام في داخلها كثيرا، رغم زواجها من محسن طالب دار المعلمين العالية الشيوعي الذي أحبته بجنون وأنجبت منه (زينب) وأخويها قبل أن تقوده السلطة الحاكمة الى المشنقة، وتظل (سعاد) بلا معين مضطرة للذهاب الى حيث أهل محسن في الناصرية.
لم ينجد جد العائلة سعاد وأولادها وطردهم من بيته لأنها يهودية أولا ولأنها (هكذا أعتقد) تسببت في إعدام ولده الذي كان متمرّدا على المعتقدات الدينية.
وجدت (سعاد) في كربلاء وأهلها ملاذها فسكنت حيث تستطيع العيش وإدارة حياتها المنزلية والروحية، تماهت مع إيقاع الحياة الكربلائية الديني، ولم ينحسر عنها ذلك المعتقد السالف كيهودية، وحين عوضت الدولة الجديدة سعاد عن إعدام زوجها مالا وراتبا بدت الحياة أكثر ألفة.
كانت سعاد تزور الأئمة وتصلي عندهم وتدعو لزوجها  الذي استشهد بلا إيمان ديني وتجد في إغراقها بالتدين وسيلة لتعويض الراحل عما عافه من إيمان.وقد كان لا بد أن تستمر حياتها على هذه الشاكلة لولا تمرّد ابنتها زينب على حياتها الرتيبة وزواجها الفاشل من (مهند) وهو رجل تحول من إنسان طيب الى رجل مليشيات صنع لذاته سطوة تداخلت مع آخرين فتحول الى شخصية سادية تعاملت بقسوة مع شريك الحياة فتركته زينب الى حياتها الخاصة الضائعة في علاقات حميمة مع عدد من الشبان. ويكون الصِدام بين (مهند) والمجاميع المسلحة التي هي على شاكلة مجموعته سببا في اعتقاله وضياع سطوته.كانت زينب مؤمنة بحريتها الخاصة التي ينبغي ألا يناقشها أحد فيها، وهي ترفض ممارسات والدتها الدينية المغلقة وتطلق العنان لغرائزها مع عدد من عشاقها.. إنها (سافو) بإيقاع جديد، لكن شقيقها دانيال، كان يعيش حالة من الصدمة الاجتماعية بعد التغيير ساعيا الى الهجرة عن بلد لا يشتاق إليه كثيرا.وإذ تجنح سعاد الى الموافقة على الهجرة الى هلسنكي بكامل أسرتها، تكشف لولديها الحقيقة وهي أنها أساسا من أسرة يهودية توارت خلف بنية إسلامية مفترضة، لكنها (سعاد) صارت أقرب الى الإيمان بآل البيت والتشيع وطقوس الصلاة في الحرمين الحسيني والعباسي من كثير من المسلمين.
عاشت سعاد ازدواجية الدين وتظاهرت طوال سنواتها السابقة بالإسلام مؤمنة وصادقة في ما تعايشت نفسيا وفي جزء من (إيمانها الذاتي) باليهودية، فكانت تؤدي صلوات اليهود سرا في وقتها لكنها تؤدي الطقوس الإسلامية علنا وبصدق وإيمان.
أفادت أسرة سعاد من يهوديتها لتسهيل إجراءات السفر الى هلسنكي حيث رعاية الكنيس اليهودي هناك، لكن الصدام مع واقع الحياة في هلسنكي دفع الأسرة للسفر الى (اسرائيل) حيث تولت منظمات الهجرة هناك عملية نقلها وإسكانها.
كان لقاء الناس في المستوطنة اليهودية التي وضعت الأسرة فيها مؤقتا سببا في ضيق شبابها من وضعهم هذا في وقت عاشت فيه سعاد حالة من الوجد الديني حيث تكشف علانية جلدها الإيماني القديم الذي كانت تحيطه (عن إيمان أيضا) بالغلاف الديني المسلم. اصطدمت سعاد في أرض الميعاد بشعور اليهود الأوروبيين الواضح بنوع من الاستعلائية الطبقية الحضارية على يهود الشرق وسوء التعامل معهم، في وقت عانى فيه أولادها من الشكوك الأمنية الإسرائيلية من أصولهم اليهودية واحتمال انحيازهم  ضد الفكرة الصهيونية. ورغم انسجام زينب بحدود مع ذلك المجتمع الكوزموبوليتي واستمرارها في مغامراتها الحسية فقد كان شقيقها دانيال قد ضاق ذرعا بهذا المجتمع المغلق الكثير الشكوك.
يقفل الروائي أحداث روايته –التي يستحق كل مفصل منها للتحليل والنقاش – باضطرار سعاد للإعداد للسفر الى بغداد مع شقيقها (أبو رائيل) لتسوية موضوع راتبها التقاعدي مع مؤسسة الشهداء في العراق التي كانت ستقطع هذا المورد الحيوي إن لم تأتِ المستفيدة الى العراق، وهي زوجة المواطن محسن الذي أعدمه النظام السالف.كانت سفرة العراق الجديدة تشكل نوعا من البهجة لسعاد التي استعدت لها تماما بتأثير ابنتها زينب التي استطاعت إجراء تغييرات شكلية مهمة في جسد والدتها حيث تركت الثوب الأسود وانصاعت لماكياج خفيف وهي تستعد للسفر الى بغداد مع شقيقها التائق للعودة الى أرض الصبا من دون خوف من شيء. تتوقف الأحداث عند رحيل سعاد وقد تركت المصائر الأخرى في خطوط مفتوحة على أحداث جديدة تقودها زينب وشقيقها وبقية الأسرة التي حركتها الأقدار من تجربة الى أخرى بقلم روائي بارع صنع لنا تجربة  سردية مختلفة عن التجارب الأخرى.