«ليغو» ذاكرة وطن

ثقافة 2022/03/29
...

 أمجد ياسين
 
تضمر لوحات الفنان تحسين الزيدي، في معرضه الأخير «ليغو» الذي أقيم في بغداد، أكثر من مستوى فني لقراءتها، وكأنها تحاكي فترات زمنية متلاحقة، تنسحب من الماضي باتجاه الحاضر وتستجلب معها ذكرياتنا/ شخصياتنا وتقترب بها الى بداية اللوحة/ الحاضر، لتحضر بما هي عليه الآن. وقد نقرؤها من الحاضر باتجاه الماضي وصوره التجريدية لتنسج لدى المشاهد خيطا رفيعا باتجاه الذاكرة ليتمثل نفسه وذكرياته. 
الحاضر، والما بين، والماضي، هي المستويات الثلاث التي بنيت عليها لوحة الفنان تحسين الزيدي، وقد قدم هذا المزيج بطريقة فنية وبتقنية عاليتين. الماضي/ عمق اللوحة، وشخصياته غير واضحة الملامح حاضرة في المشهد بقوة، وكأنّ الفنان يريد أن يقول إن صلتنا به ما زالت قوية، يكرر نفسه باستمرار، فالماضي لا يموت، أشبه بعنقاء تنهض كلما نفخ في جذوتها، وملامح الشخصيات يمكن أن نتصورها نحن، ونعطيها أسماء وألقاب ونلبسها ما نشاء، لتنطلق منه باتجاه الحاضر. 
أخذ الزيدي ثيمة «ليغو» محورا لكل لوحاته تقريبا، وهو بهذا يقدم عمرا او شريطا من صور بعضها من الذاكرة البعيدة وبعضها الآخر ما زال يعتمل في واقعنا الآن.. اللعب والحرب صنوان في العديد من لوحاته، وهاتان الثيمتان فيهما من المشتركات
الكثير. فالحرب لعبة الكبار التي تمتد للأجيال المقبلة، وأن بطرق مختلفة، فمن كان يلعب بنار الأسلحة للقتل والهيمنة تحول في زمن آخر الى لاعب من نوع آخر، يسخر منها  بعد أن تحولت الى هذه الوحوش الى خردة، لعبة بيد طفل او ساحة لعب أطفال. وفي أغلب اللوحات كانت الحرب هي أقرب الى الحاضر منها الى الماضي، فهي فعل مستمر، وهي المنطقة الما بين- القلقة، ترسم ملامحها بين زمنين لأجيال مختلفة، إلا أن اللعب/ اللعبة واحدة وان اختلفت أشكالها او أدواتها. هذه المراحل الثلاث تنفتح على تأويلات عدة وتجعلها أكثر غنىً، إذ يمكن لكل من عاش الحرب أن يدلو بدلوه ويراها من زاويته ويتمثّلها قصصا وروايات وأشكالا وشخصيات.
قراءة أخرى معاكسة، تبدأ من الحاضر باتجاه الماضي، وهنا نغوص باتجاه الذاكرة، ليحضر الما بين- الفترة القلقة والماضي بقوة، فيبدأ المشاهد بوضع ملامح لشخصيات الماضي التي جعلها الفنان أشبه بكاركترات قابلة للتلوين ورسم ملامحها ليتمثلها المشاهد كيفما يريد، ويبدأ معها رحلته الخاصة، وهذه الفسحة التي تركها الفنان لمشاركة المشاهد تأويلاته وتلويناته للشخصيات عمّقت الصلة بين اللوحة والمتلقي، مما أضفى بُعدا آخر للأعمال المقدمة، عندما تشارك في صنع أحداث اللوحة وتضفي عليها لمستك كمشاهد فأنت تصبح جزءا منها وليس مشاهدا طارئا فقط. 
لوحات أخرى حملت عنوان «الفرار» و «بعد الفرار»، تواجدت في ذات المساحة والفترات الزمنية الثلاث، حضرت فيها الطفولة واللعب والقوة القاهرة، في لوحات اللعب كانت آلة الحرب حاضرة، وفي هذه كان الحصار او التحجيم حاضرين. في لوحات الفرار وبعده، كانت الدوارق الزجاجية هي القوى القاهرة، وهنا أيضا بعث الفنان بأكثر من رسالة، فإذا أدان الحرب فإنه يدين الحصار والسجن ومصادرة الحريات والقمع.. في الوقت نفسه، أما لماذا الحصار في دوارق زجاجية فلأنه علني ومعروف يمكن للجميع أن يراه ويعيشه، أما الحرب فيكتوي بنارها من تطاله مباشرة، وقد تسترها سواتر وحفر. في جميع لوحات الفنان تحسين الزيدي، ينتصر الإنسان والطفولة واللعب، مكعبات الليغو ما هي إلا رسالة بناء او إعادة تشكيل لما فقد سابقا. فتتحول فيها الحرب والحصار من قمع الى رحم لولادة جديدة تنطق بالحركة العفوية الضاجة بالحياة.