في مديح السفر

ثقافة 2022/03/29
...

 نجم والي
قبل أن ترسم الحدود وتؤسس الدول، وجد السفر. الانعتاق والرحيل، الإبعاد والفرار. إنه قديم قِدم الألم، كما الرغبة في التخلي عن كل شيء، والاضطرار إلى ترك كل شيء، كما لو أنه ولد من إدراك الألم في الوجود، ذلك ما عرفه حتى أولئك الذين لم يميلوا أبدا إلى مغادرة موطنهم الأصلي، الإسكندري «كونستانتينوس كافافيس» مثلا، «الرجل العجوز الحكيم»، كما أسماه لورانس دوريل في رباعيتة «الإسكندرية». كافافيس، الذي عاش في مدينته الإسكندرية لمدة 70 عاماً حتى وفاته.
 
 كان متشائماً من السفر؛ لأنه لم يعتبر السفر ضرورة. لقد كتب: «وكما خربت حياتك هنا، في هذه الزاوية من العالم، فهي خرابٌ أنّى ذهبت». ومع ذلك، لم يظل جالساً في المكان نفسه منتظراً خرابه، لقد قام برحلتين، واحدة إلى باريس، والأخرى إلى لندن، ورحلات قصيرة إلى أثينا والقسطنطينية، وترك لنا قصيدته الرائعة إيثاكا، والتي توضح لنا أهمية المسار الذي نسلكه نحو الهدف.
بداية كل رحلة تتطلب منا الخضوع لنداء المسافة، لأن المسافة لا نهائية مثل القلب. لا توجد قوانين أو قواعد، سابقة أو حالية، تحدد متى وأين وكيف تسافر. السفر هو تجربة. هو الرغبة في الاستسلام لنداء القلب، والانطلاق إلى مكان جديد من أجل اكتشاف شيء مجهول.
السفر هو مصدر الحكمة وموطن الدهشة. حتى الذي لا يستطيع السفر مباشرة إلى المكان فإنه يرتحل في الزمن، إلى الماضي بحثًا عن الوقت الضائع، مثل مارسيل بروست. أو إلى الحاضر، إلى أميركا مثل كافكا، أو إلى المستقبل مثل أ-هربرت. ج. ويلز في «آلة الزمن». أو إلى المدن غير المرئية مثل إيتالو كالفينو، أو إلى العراء على ظهر سفينة كبيرة لصيد سمكة أسطورية تسمى موبي ديك. أو يتسلق أعلى جبل في أفريقيا، جبل كليمنجارو المغطى بالثلوج، كما همنغواي. أما مَنْ لا يستطيع النوم بسبب المرارة أو الحقد أو الغضب فيشرع في رحلة إلى نهاية الليل مثل سيلين.
ومَن لا يستطيع الرحيل من مكانه، يرتحل في الحكي. مَن تقاسم زنزانة مساحتها عشرون متراً مربعاً مع ستين سجيناً ومعرضاً للعث والقمل واليأس ومزاج الجلاد، كما حصل في أقبية زنازين المخابرات العسكرية في بناية وزارة الدفاع في بغداد شتاء 1980، لن يجد طريقة أخرى لفكّ أسره غير سرد القصص لرفاقه في الألم واليأس. قصصنا هي وسيلة للتغلب على وعي الألم ومقاومة الرغبة بالموت.
ماذا ستكون حال قصص “ألف ليلة وليلة” من دون السفر؟ من أجل البقاء على قيد الحياة نسجت الراوية شهرزاد بساطًاً من القصص والأسفار للملك شهريار، المدمن على القتل، للخروج من عالمه إلى مكان جديد؛ إلى مكان وأمكنة قصصها. ومثلما يحدث لكل مسافر عندما يعود إلى المكان الذي غادر منه، ويتصالح معه، هكذا وجد شهريار نفسه قد تغير في بلده، من دون أن يغادره، خلال الألف ليلة وليلة، وفي النهاية دفن خلفه القاتل الذي كان في داخله.
على خطى عدد لا يحصى من الأيام والليالي، تنشأ الرحلات من روح سرد القصص، وتخلق الدهشة عند الاستماع أو القراءة وتمهّد الطريق إلى عالم جديد. من دون كيخوته التي كتبها سيرفانتس، بعد رحلات طويلة وجولات وخطف وسجن، والتي وُضعت من خلالها الأسس الأولى للرواية الحديثة، هي ليست فقط رواية  تحكي رحلة فارس كاستيا دي لا مانجا يتجول بصحبه تابعه سانشو بانشا لمقاتلة طواحين الهواء، بل هي البداية لتثبيت تقليد لاحق؛ وهو شغف الروائي بالسفر.
فرّ دوستويفسكي من مدينة إلى أخرى هرباً من دائنيه. ربما لولا هروبه ذاك لما قرأنا بعض رواياته الخالدة المعروفة، مثل رواية “المقامر” التي كتبها في بادن بادن، و “الشياطين” في درسدن. 
الألماني هاينريش هاينه أنجز “أسطورة الشتاء” في باريس. في باريس أيضاً كتب تورجنيف “آباء وأبناء”. غوغول اشتغل على “النفوس الميتة” في روما. بينما كتب جورج بوشنير موت دانتون وفويتزيك في زيوريخ. رومان رولاند كتب في سويسرا عن فرنسا. وريلكه كتب رسائل إلى مؤلف شاب في بياريجو وفوربيده وروما وباريس وفي السويد، كما أكمل عمله على مراثي دوينيو في سويسرا. هنريك أبسن كتب عن النرويج في ألمانيا. وكتب ستريندبرغ عن السويد في فرنسا. وكتب جيمس جويس عن دبلن وناسها في تريستا، وكتب غارسيا ماركيز “مئة عام من العزلة” في مكسيكو سيتي. وهذا ما ينطبق على “موت في البندقية” لتوماس مان و”طيران الليل” و”بريد الجنوب” لإكزوبيري.
وفي كل ذلك، لا أشك، أن أسلافنا هؤلاء ما كانوا أنجزوا كل هذه العناوين الخالدة حتى اليوم، لو لم يسلموا أنفسهم لغواية الرحيل. لو لم يذهبوا بأنفسهم بحثاً عن الحظ، لطرق بابه، ولم يبقوا جالسين بانتظار أن يطرق هو أبوابهم. نعم، ليس هناك أكثر تعاسة من البقاء في المكان ذاته. لا بد من الرحيل. ولا يهم المكان الذي ننتهي إليه. في نهاية المطاف لا بد أن نصل إلى النقطة التي نستلّ فيها مفاتيح ذهبية مرمية هناك عند الأفق، تحت أقدام قوس قزح برَقَ أمام عيوننا، والتي سنعثر بالتأكيد، عن طريقها، على كنوز مدفونة.
في طفولتي كنت أعثر على كتوزي في بغداد. 360 كيلومتراً كانت المسافة بين العمارة، التي كنا نعيش فيها في جنوب العراق، وبين العاصمة بغداد. لكن في كل رحلات أبي إليها، كنت أتخيل نفسي، وقبل أن أنام، بأنني أسير معه في أزقة بغداد ودرابينها. وفي ليالي الصيف، ولأننا كنا ننام في باحة البيت الواسعة، كنت أطيل النظر في النجوم التي لا تحصى وهي تلمع في السماء والتي كانت مثل شاشة عرض تتلألأ بتخيلاتي. بهذا الشكل كنت أرسم صورة خريطتي الخاصة عن بغداد. خارطة صغيرة تناسب حدود قدرة صغير مثلي على التجوال. 
لا أتذكر كم كانت تطول رحلتي المتخيلة تلك، لأنني غالباً ما كنت أستسلم سريعاً للنوم. كانت عيناي تتعبان وهما تدوران شتاءً، على طول السقف وعرضه، يميناً ويساراً، أو صيفاً وهي تتنقل عالياً من نجمة إلى أخرى.
لا أعرف كم يمنح الخيال من القوة لتخيل المدينة التي لم تكن قدماي قد وطأتها حتى ذلك الحين، لكي تبدو حقيقية، لأن كل ما أعرفه عن تلك الليالي، التي أصبحت بعيدة عني بعد بغداد عني وأنا في برلين الآن، هو أنني كنت حينها مثل مهندس معماري يبني طرقاً هوائية في الفضاء، وأن القصص التي كنت أسمعها ممن هم حولي عن بغداد، لم تفعل غير تغذية رحلاتي بتخيلات جديدة، كأن رحلاتي المتخيلة لمدينتي المخترعة بغداد، هي البداية لأسفار آتية أبعد وأبعد... لا حدود لها، كما هو التخيل... اليوم أعرف وبعد كل هذه السنوات، وبعد كل هذا الترحال، بأنني من دون تلك التخيلات، ما كنت أصبحت بالتأكيد على ما أنا عليه الآن، جوّاباً للآفاق، أطوف الأرض مارينيرو إن تييرا، بحّار على الأرض كما عنوان الديوان الأول لابن العم الأندلسي، العظيم رافائيل ألبرتي، كأن التجوال عبر الكلمات لا يكفيني وحده... كأن البلاد التي أبحث عنها... هي هناك موجودة في السفر... في التطواف وحسب!