ثوب نظيف وقلوب متسخة

ثقافة 2022/03/30
...

ستار كاووش

حين يمتلك الفنان موهبة رفيعة المستوى يمكنه إنجاز لوحات جميلة ومؤثرة بصرياً، لكن حين يضيف إلى موهبته موقفا إنسانيا عميق المستوى، فهو بهذا ينجز لوحات تؤثر في قلوب الناس وتدخل التاريخ أيضاً.
وهذا ما فعله الفنان نورمان روكويل في لوحة (المشكلة التي نعيشها) التي صارت واحدة من الأيقونات التي تؤكد أن الفن الحقيقي بمثابة مرآة لقلوب الناس، وهو الضمير الذي يجمعهم.
كانت الطفلة السمراء روبي هي البطلة الملهمة للرسام، بعدَ أن عَرَّت المجتمع الأمريكي وهي تسير وسط العنصرية المقيتة التي أحاطت بها من كل جانب.
وهنا انبرى هذا الفنان لرسم لوحته الخالدة التي صارت مثالاً للالتزام واستنكار التمييز العنصري.
تظهر الفتاة روبي صاحبة الست سنوات وهي ذاهبة إلى المدرسة، لكن مواطنيها البيض استنكروا وجودها في المدرسة التي أرادوها أن تكون لهم فقط، وهكذا نظموا احتجاجات واسعة وقاموا بمضايقات عنيفة لمنعها من دخول المدرسة.
كل هذا ضد فتاة صغيرة بعمر السادسة، وفي أول يوم لها بالمدرسة! وكان هذا في خضم المطالبة بالحقوق المدنية للسود سنة 1964، ووصل الأمر حد أن حملتْ بعض فتيات المدرسة (من البيض) لافتات كُتبَ عليها (نريد أن تكون مدارسنا للبيض فقط).
روبي تريد أن تدرس في بلدها، لكن الآخرين يمنعونها، ليس لعدم كفاءتها، بل لأن لون بشرتها يختلف عن لون بشرتهم! وهكذا هددوا أباها بعنف، ثم قطعوا عليها طريق الذهاب إلى المدرسة، بعد أن (تجرأ) أحد المعلمين ووافق على تدريسها.
ولم يهدأ عنف الناس إزاءَ هذه الطفلة حتى بعد أن أرسلت السلطة الفيدرالية أربعة رجال شرطة لحراستها في الطريق المؤدي للمدرسة!. 
هكذا صوَّرَ هذا الفنان روبي وهي في طريق المدرسة، يحيطها أربعة رجال من الشرطة الفيدرالية، بأشرطتهم الرسمية التي يلفونها على أذرعهم، وسط الناس الذين لم يتوقفوا عن مهاجمتها وقذفها بالطماطم الفاسدة، لا لشيء إلا لأنها تريد أن تذهب مثلهم إلى المدرسة!. 
تبدو الفتاة في مركز اللوحة يحيط بها أربعة رجال لحمايتها، لكنهم مع ذلك يثيرون شيئاً من التوجس في قلب الفتاة الصغيرة التي تمسك دفاترها مع مسطرة وتمضي بخوف نحو أول أيامها 
المدرسية.
وهنا كان على الرسام أن ينتبه للتباينات المؤثرة التي أحاطت بالموضوع، فتاة ببشرة سمراء وملابس بيض مثل ثياب الملائكة، ثوب نظيف تقابله قذارة العنصرية المتمثلة بالطماطم التي قذفها الناس نحو الفتاة وتشظت على الجدار مثل قنبلة، وهنا ننتبه للتكوين حيث وضع الفنان هذه الأوساخ العنصرية خلفها، بينما هي تمضي نحو المستقبل، تمشي بهدوء وثبات غير مبالية بكلمة (زنجي) التي كُتبت فوقها على الجدار، كذلك حرف كَي المكرر ثلاث مرات في مقدمة اللوحة، الذي يعني (كو كلوكس كلان) وهي منظمة أمريكية عنصرية تأسست في القرن التاسع عشر، يغطي أعضاؤها وجوههم بأكياس بيضاء كأقنعة. 
طُبِعَتْ هذه اللوحة كغلاف لمجلة لوك سنة 1964 وهي من مقتنيات متحف نورمان روكويل في ستوكبريدج، هذا الفنان الذي أثَّرَ بموهبته الفريدة في الحياة الأمريكية، مثلما كان مصدر إلهام لفناني (الواقعية المفرطة) التي ظهرت في الستينيات والخمسينيات.