مركب الموت

ثقافة 2022/04/01
...

ستار كاووش

يعود الفنان ووترهاوس في هذه اللوحة، ليتأثر من جديد بقصيدة الشاعر ألفْريد تينيسون (سيدة شالوت)، التي تتحدث عن امرأة تعيش وحيدة في برج على جزيرة شالوت، وفجأة يمرُ الفارس لانسلوت بالقرب من البرج وهو يردد أغنية وصلت كلماتها إليها، فأضاعت قلبها وتعلقت به بعد أن رأت انعكاس صورته في المرآة.
فتركت نول الغزل وهرعت مسرعة نحو النافذة لتطل عليه، فتصدعت مرآتها ثم تحطمت، فعرفت في الحال، أن اللعنة سوف تحلُ عليها، وأن موتها قادم لا محالة.
وهكذا تركت البرج وهي تستجيب لنداء غريب يسحبها نحو مدينة كاميلوت، لتجلس في مركبٍ باحثة عن الخلاص من مصيرها ونهايتها، وهي لا تعرف أن الموت ينتظرها وسط البحر، لتموت قبيل وصولها إلى كاميلوت.
وفي هذه اللوحة صوَّرَها ووترهاوس قبل انطلاقها بالمركب بلحظات، ليقدم لنا واحدة من أجمل الأعمال في تاريخ الفن، وهي نموذج مدهش يعكس أيضاً ملامح الفترة الفكتورية التي هيمنت فيها موضوعات الحب الطاهر المحكوم بتضحيات كبيرة، سواء في الأعمال الأدبية أو الرسم وحتى الموضوعات الدرامية.
كذلك يعبر موضوع هذه اللوحة تعبيراً رائعاً عن ملامح مدرسة ما قبل الروفائيلية. حين نتأمل تفاصيل اللوحة نشعر بالمأساة ونتحسس الفاجعة التي نراها تتحرك علـى قماشة الرسم.
فرأس المرأة المرفوع ووجهها الشاحب ونظرتها الشاردة هي إشارات للموت الذي يقترب منها.
وكذلك الشموع الثلاث (غير موجودة في القصيدة، وقد أضافها الرسام لإعطاء بعد درامي للعمل، حيث بقيت شمعة واحدة فقط مشتعلة، كإشارة لِتَبَقّي وقت قصير من عمرها.
ثم هناك التمثال الصغير بجانب الشموع، والذي يمثل شخصاً مصلوباً يواجه السماء وفيه أيضاً إشارة لموت قادم. 
كذلك نلاحظ أوراق الأشجار الطافية على سطح الماء، والتي ترمز في العصر الفكتوري إلى نهاية الحياة والانقياد للمصير المحتوم ( كما في لوحة غرق أوفيليا التي رسمها العبقري الآخر ميليه. وبالنسبة للرسم المطرز على القماش الملقى على حافة المركب، فهو يمثل الفارس لانسلوت على حصانه كما شاهدته هذه المرأة في مرآتها. والسلسلة التي تتدلى من يدها اليمنى، والمربوطة على اليابسة، هي الشيء الأخير الذي يربطها بالجزيرة، وبعد أن تُرخي يدها وتترك هذه السلسلة تلامس الماء، ينطلق بها المركب نحو الموت. 
هذه اللوحة هي درس كبير ومثال مدهش للفن الذي ينقلنا إلى عوالم من الدهشة والسحر والغموض، لنعيش مع هذه 
المرأة في عزلتها، ونرى نهايتها وهي تنطلق نحو مصير لا يمكن إيقافه أو التحرر منه.
إضافة إلى كل ذلك فالعمل هو قطعة فريدة وكنز من كنوز الرسم على مَرِّ العصور، من حيث التقنية والتكوين والمناخ وتوزيع المفردات والرموز.
وقد رسم ووترهاوس فيما بعد لوحتين لنفس الموضوع لكن في لحظات وزوايا أخرى من الحكاية أو القصيدة، وقد كتبتُ عن واحدة منها مقالة أخرى نشرتُها هنا أيضاً في متحف الصباح.
اهتمَّ ووترهاوس بالموضوعات الأسطورية والخرافية، وقد حقق شهرة واسعة ومكانة مهمة، ونالت أعماله شعبية كبيرة، وبالأخص نساءه العاريات وحوريات البحر الساحرات. 
في سنواته الأخيرة استوحى في لوحاته العديد من القصص العاطفية القديمة وأعمال شكسبير.