ثراء السرد

ثقافة 2022/04/03
...

 عبد النبي فرج *
تتجلى الطاقة السردية والتخيلية الهائلة لمحمد خضير، منذ مجموعته الأولى (المملكة السوداء)، وسمات جوهرية أخرى عمّقها في مجموعته الأخرى (في درجة 45 مئوي) 1978. وفي (رؤيا خريف) 1995. ثم (تحنيط) 1998، بعدها (حدائق الوجوه) 2008. ثم (بصرياثا.. سيرة مدينة) 1996. وتعبّر هذه السمات عن الولع باللغة الوصفية المتقنة، التي تعبّر عن مفهوم مبكّر للكتابة، فكل مجموعة يظلّلها مناخ كتابة ورؤى ومصائر وشخوص مختلفة، فالمملكة السوداء هي كتابة تختلف عن كتابة الموزاييك في (بصرياثا) و(في درجة 45 مئوي) يظهر عالم متكامل. برغم ذلك، فهناك خيط جوهري يربط كل هذه السرود في نسيج متقن وغني، مثلاً في “المملكة السوداء، شعرية على النحو الذي تحوّلت فيه مع بعض المقاطع لقصائد نثر مقتضبة لتعبّر عن شخوص مهمّشة تعيش في غربة، سلّط فيها الضوء على المرأة الأكثر تهميشاً في المجتمع، التي تتعرّض فيه لعنف رمزي ومادي، شديد البؤس، ركّز على إحساسها الدفين بأنَّها محاصرة، كما لو أنَّها تحت رحمة عقاب أبدي، وظهر ذلك جليّاً في قصص مثل “المئذنة، أمنية القرد، نافذة على الساحة، والشفيع”. أمّا قصة (تقاسيم على وتر الربابة) فتحكي عن عودة جندي من الحرب معطوباً، قصة أخرى موجعة تحمل نفساً شعرياً مؤثّراً، الحوار فيها متقن بشكل مروّع، ليس الحوار بين الرجل والمرأة، بل الحوار الذي بين الرجل والمرأة والربابة، إذْ تسهم الربابة في إظهار جرح الرجل، مثلما القطار وهو رمز الفحولة تحوّل لرمز الانكسار والشعور المضنى بالضآلة. اللغة في أعمال محمد خضير، تلعب أيضاً دوراً جمالياً لتخفّف من جفاف الهموم الاجتماعية الضاغطة. (في درجة 45 مئوية) التي تتكون من ثمـاني قصص قصيرة: تاج لطيبوثة؛ الصرخة؛ إلى المأوى؛ الحاج؛ ساعات كالخيول؛ إله المستنقعات؛ احتضار الرسام ومنزل النساء. تدور العوالم السردية في إطار حلمي يهندس فيه الوقائع لتقديم رؤيته الكابوسية للعالم، ويعتمد كذلك في نصوص أخرى على جعل السرد بلسان الراوي فيبدو كما لو أنَّه ينتمي إلى السيرة الذاتية مع أنّه ينطلق من وقائع متعينة ويدفعها من خلال التخييل إلى منطقة أخرى تماماً، يجنح فيها لاستبطان الذات، يعرّي فيها رغباته المطمورة وأشواقه السرية ومناطقه المظلمة بما فيها الكوابيس.
ويظل المكان بتفاصيله الدقيقة فاعلاً أساسياً في تعميق غربة الذات وضياعها في أعمال محمد خضير، فالرمال والأشجار القليلة والفضاء وضوء الشمس، والزهور تشارك بقوّة في حصار الذات، والشخوص ضائعة في تيه ليس لها ملامح مميزة، في إحدى القصص تموت طفلة مسمومة نتيجة تناولها نبتة سامة، نعرف ذلك من خلال الراوي الذي يرصد المكان بعين ميكروسكوبية، يلتقط الخراب الذي يوسم الطبيعة الصحراوية المجدبة، الجِمال تموت، أو جمل أجرب مقيّد، كما أنَّ هذه المجموعة تظلّلها رؤى صوفية من خلال هذا البحث الدؤوب وطرح الأسئلة والغموض الذي يبدو أزلياً، في النهاية أجد أنَّ سرد محمد خضير توليفة شديدة التعقيد يمتح فيها من كل مصادر المعرفة باعتباره يمتلك ذهناً متوقداً وحواس مرهفة وخيالاً من الأساطير، ليقدّم لنا عملاً سردياً باذخ الثراء.
 
* قاص وروائي مصري