مبدع الحوليّات

ثقافة 2022/04/03
...

 د. محمد عبيد الله *
يمثل الأديب محمد خضير قمة من قمم الإبداع العراقي والعربي، مرتبط في وعينا بحاضرة (البصرة) في عهدها الحديث، لكأنه يستكمل تاريخ الإبداع والمعرفة ليسجل حضوره في ذاكرتها المتجددة. يتصور قارئه أنه مبدع التصق بمدينته ولم يغادرها ولم يهاجر منها رغم الظروف القاسية التي عايشها طوال عقود. في جانب واسع من إنتاجه تجد حياة البصرة وناسها وحيويتها، في سرد آسر، فهي (بصرياثا) التي تستحق أن يكتب سيرتها، وفي أحد كتبه الأخيرة وقف على حي (العشار) ذي الميل الواحد من ناحية المساحة أو الأبعاد ودقق في حياته الخفية لينسج منها سرديات متميزة. مبدعنا الكبير يمنحنا درسا رفيعا في خصوصية التعلق بهذه المدينة المختلفة. موقعه في القصة العراقية والعربية في مقام رواد الحداثة من جيل الستينات، ويمكن أن يسلك في عداد أسماء رفيعة، كيوسف إدريس وزكريا تامر، ومحمود شقير، ونحوهم ممن أخلصوا للقصة القصيرة وأسهموا في تجديد أساليبها وفي نقلها إلى مناطق جديدة من خلال دأب إبداعي ووعي معرفي وثقافي رفيع.  يرتبط عندي محمد خضير بدراسة مبكرة للأديب الأردني الراحل غالب هلسا عن مجموعة (المملكة السوداء) نشرت في مجلة الأقلام عام 1977، بعنوان (الانتظار بدون جدوى) قرأتها في نهاية ثمانينات القرن العشرين عندما كنا نعود للدوريات في مكتبة الجامعة الأردنية، ونحاول أن نتمثل مسيرة ثقافتنا المعاصرة من خلالها. دفعتني تلك المقالة للبحث عن مجموعة (المملكة السوداء) المنشورة عام 1972، التي تعدّ من أمهات الكتابات القصصية المؤسّسة.  وفي سنوات التسعينات وحقبة حصار العراق، أعاد صديقنا الراحل إلياس فركوح تقديم اسم محمد خضير في الساحة الأردنية والعربية من خلال نشر مجموعات محمد خضير وكتبه القديمة والجديدة، كما كان اسم خضير يحضر دوما في أحاديثنا مع أصدقائنا من الكتاب العراقيين الذين يزورون عمان أو يقيمون فيها، ومؤكد أننا تحدثنا في كل لقاء مع صديقنا الأديب لؤي حمزة عباس عن محمد خضير وكتابته الفارقة وتجربته المغايرة لما نعرف من تجارب. كان ذلك كله محفّزا لنا على قراءته واكتشاف سرده النوعي الآسر، الذي ينطوي على متعة السرد من ناحية صنعته، مع عمق تأملي وفكري قلما تجده في الكتابات القصصية القصيرة، لا تشعر أنه متعجل أو حريص على كثرة الكتب، مقدار متعته في تأنيه وحدبه على نصه وكتابته، كأنه نحات تماثيل أو معبودات يمضي أطول وقت في نحتها وإبداعها، يصل قصته بألوان من الفنون والثقافات والتأملات والتشكيلات ليس من الهين اجتماعها، وينم نصه عن ثقافة رفيعة متنوعة، اجتمعت في ذهن إبداعي يجل الإبداع لذاته ويقدّره. 
إنجازاته في حقل القصة القصيرة إنجازات نوعية رفيعة، ستظل حية وسجلا للإبداع الحقيقي الباقي، يعرف كيف ينطلق من واقعه المعيش ولكنه لا يتوقف عند حدوده بل يتعمق في تأمله ليخرج منه بمادة سردية تصلح للبقاء وللثبات في سجل الكتابة بعيدا عن راهنية دوافعها أو أسبابها أو محركاتها. ويحسن بنا أيضا أن نختم هذه التحية بالإشادة بوعيه النقدي المضيء الذي نلمسه صراحة في كتبه النقدية التي جمع فيها مقالات وتأملات مهمة حول السرد والإعلام والكتابة، من مثل: الحكاية الجديدة، والسرد والكتاب، وحدائق الوجوه، فهذه الكتب تكمل شخصيته الإبداعية والثقافية الآسرة، تدلك على أسلوبه في القراءة والكتابة، وعلى الجمع بين الكثافة والرهافة، وعلى الشخصية المستقلة التي تمكنه من تقديم قراءته الفاحصة الخاصة لكل ظاهرة أو قضية يتناولها باهتمامه. 
وأخيرا، فإن كان في تراثنا شعراء حوليات يحكّكون نصوصهم وهم يتأمّلون ويقاومون ما يجيء عفو الخاطر، ففي عهدنا الحديث جدّد المبدع الكبير هذه التقاليد في مجال القصة والكتابة السردية التأملية، ولذلك يستحق أن نصفه بأنه سارد الحوليات الذي أبدع السرد العميق.
* ناقد أردني