رحلة البحث عن الأدوية بين الصيدليات والعيادات الطبية المفقودة منها والباهظة الأثمان، أصبحت من البديهيات في يوميات المواطن البسيط، ويكفي ملاحظة الطوابير المتزاحمة على أبواب تلك الصيدليات المجازة منها وغير المجازة، لتتيقن أن الواقع الصحي في البلاد يسير نحو الهاوية.
فما بين تلاعب تجار الأدوية وعمليات التهريب التي تنفذها مافيات الفساد، وارتفاع سعر الصرف الذي ضاعف من قيمة الدواء إلى ثلاثة أضعاف، يبقى المواطن رهين استغلال وجشع التجار ومذاخر الأدوية التي جلها لا تخضع للرقابة الدوائية والصحية.
فوضى ومعوقات
"طفلتي اغتيلت على مذبح المستشفيات"، بهذه العبارة لخَّص المواطن محمد الصبيحاوي من سكنة بغداد، مأساته ومرارته، مبدياً حزنه وامتعاضه، من نقص الأدوية في معظم مشافي بغداد، وافتقادها لأبسط النظم الصحية والوقائية، رغم المساعي الكبيرة التي بذلت لتذليل المعوقات التي تواجه المرضى على مختلف الصعد.
فوضى الأسعار في سوق الأدوية ما زالت تعصف في المذاخر الدوائية، وسوق الطلب، كما أنه لا أحد يمكنه أن يضمن سلامة الأدوية في سوق القطاع الخاص، فهي مقترنة بعمليات تهريب تحميها مافيات سياسية متنفذة.
يعزو الصيدلي سنان مجيد، سبب تراجع صناعة الأدوية في البلاد، إلى إيقاف الدولة دعمها لهذه الصناعة، ما أدى إلى عدم توفير المواد الأولیة من مناشئ رصینة، وما أدى إلى توقف معظم خطوطها الإنتاجية، ولم يخف فوضاها منتقداً تحكم مافيات متنفذة في الدواء، معتمدة في ذلك على حدود البلاد غير المنضبطة، ما يسهل دخول الأدوية غير المرخصة عبرها، وما يعكس بظلاله على جودة المنتج وثمنه، وبالتالي يدفع المواطن ثمناً باهظاً.
ويشاطره الرأي الصيدلي فرقد بنيان، قائلاً "ضعف الرقابة والفساد أسهما في رداءة الدواء وارتفاع سعره، فواجب مختبر الرقابة الدوائية، الذي تديره ملاكات متخصصة، أن يحدد جودة الدواء من عدمها من دون محاباة أو مجاملة"، مردفاً "كما أن عمليات التهريب التي تتم من خلال حدود الجوار مع العراق، لضعف السيطرة الكاملة عليها بسبب مساحاتها الشاسعة، أغرت مصنعي أدوية غير قانونيين بإنشاء معامل صغيرة داخل المنازل لغرض تسويق تلك الأدوية للبلاد بمواد خام سيئة جداً ولا تحمل أية مواصفة دوائية حقيقية".
وفيات وأزمة متفاقمة
وتظهر بيانات منظمة الصحة العالمية، أن الحكومة المركزية في العراق، أنفقت خلال السنوات الأخيرة مبلغاً لا يتناسب حتى مع البلدان الأشد فقراً، إذ بلغ نصيب الفرد من هذا الانفاق نحو 161 دولاراً في المتوسط، بالمقارنة مع 304 دولارات في الأردن و649 دولاراً في لبنان.
وخلال العام الجاري، ومع تسجيل أسعار الدواء قفزات كبيرة بسبب تأثير ارتفاع أسعار صرف الدولار، وتفشي وباء كورونا، وغير ذلك من أسباب، سجل العديد من حالات الوفاة داخل مستشفيات بغداد والمحافظات الأخرى، بسبب عجز المرضى عن شراء الدواء من السوق السوداء بسبب ارتفاع سعره.
بينما أحصت نقابة الصيادلة، عدد الأدوية المسعَّرة، تشير إلى وضع خطة خاصة لشمول 90% من الأدوية بالتسعيرة خلال العام الحالي. ووفقاً لما أدلى به نقيب الصيادلة مصطفى الهيتي في تصريح صحفي، فإن "وزارة الصحة ماضية بمشروع تسعير الأدوية وفقاً لما قدمناه، وتم إنهاء تسعير 1000 مادة من أصل 9500 مادة".
وصولاً إلى تسعير 80% إلى 90% من الأدوية التي تحتاجها السوق العراقية"، مؤكداً "متابعته المستمرة بالتعاون مع وزارة الصحة لعملية التسعير من المكاتب والمذاخر وحتى الصيدليات، تلافياً لحدوث أية أزمة في الأسواق"، أما عن ملف الأدوية غير المرخصة، فلا جناح على نقابته بهذا الملف، وإنما على عاتق المنافذ الحدودية، عاداً "النقابة مسؤولة عن الأدوية التي يتم استيرادها من قبل المكاتب العلمية بإجازات استيراد".
لكنها انتقدت خطط الوزارة بالسيطرة على الملف، وأكدت أن ملف الأدوية لا يمكن السيطرة عليه، من خلال حملات المتابعة والتفتيش على الصيدليات فقط، مبينة أن "خطط الوزارة للسيطرة على أسعار الأدوية غير مجدية".
معالجات خجولة
وبالرغم من ذلك، فإن حلول ومعالجات وزارة الصحة لهذا الملف بقيت خجولة، ولم تتجاوز الحديث عن خطط ووعود فقط، ومع حديث الوزارة عن حملات مراقبة وتدقيق الأسعار في الصيدليات، إلا أن نحو 70 بالمئة من الأدوية في العراق توضع في خانة الأدوية غير المُسعرة، وهي بالغالب المستوردة من مناشئ أوروبية وغربية مختلفة، بينما الأخرى مسعرة كونها مستوردة وفقاً لاتفاقيات وعقود مع وزارة الصحة ببغداد.
يتساءل المدرس المتقاعد إبراهيم عواد، عن دور مصانع الأدوية في العراق، مؤكداً أن "هناك مصانع عراقية كانت منتجة في البلاد خلال الفترة السابقة، وكانت تحقق جزءاً من الاكتفاء الذاتي، لكنها اليوم ضعيفة جداً وتكاد أن تكون معدومة، وتحتاج إلى الدعم الحكومي ووضع الخطط المناسبة لزيادة إنتاجها، بما يدعم السوق المحلية بجزء من احتياجاتها لبعض الأدوية".
بينما يرى الدكتور سعد نافع، أن "الملف يحتاج إلى خطط شاملة، بدءاً من عقود التوريد، وتحديد نوعيات الأدوية، وتغطية حاجة المستشفيات من الأدوية المجانية عبر إعادة العمل بنظام توزيع أدوية الأمراض المزمنة بالمجان في العيادات الشعبية، ودعم قطاع صناعة الأدوية بالبلاد، فضلا عن السيطرة على الفساد داخل الوزارة وخاصة بملف عقود الأدوية، ومن ثم تشكيل فرق رقابية وتفتيشية على الصيدليات لضبط أسعارها".
ختاماً، تشديد الرقابة على مذاخر الأدوية، وضبط الحدود للحد من عمليات التهريب، ومراقبة الصيدليات غير المجازة، والإسراع في توفير أدوية مرضى السرطان من خلال التعاقد مع شركات الأدوية العالمية الرصينة، وتوفير البطاقة الدوائية المجانية وتعزيزها دعماً لذوي الاحتياجات الخاصة والمحتاجين، ضرورة وحاجة ملحة باتت تلامس المواطن لعلها تساعد في التخفيف من وطأة أنينه في ظل الأزمات التي اكتوى بنارها طوال عقود طويلة.