الزنوجة والعنصريَّة المقدَّسة

ثقافة 2022/04/04
...

 حميد المختار 
 
في بداية تسعينيات القرن المنصرم قرَّرْتُ كتابة قصة قصيرة عنوانها (آخر العبيد) مبنيّة على وقائع حقيقية عِشتُها مع صديقي (فرحان) وهو من ذوي البشرة السّمراء تعرّفْت عليه حين كان عبداً مملوكاً عند أحد شيوخ الإقطاع في جنوب العراق، حيث نَزَحت أسرة الشيوخ من هناك ونَزَلوا في البيت المُلاصِق لبيتنا، وحين كانت تخرج العجوز الشيخانية إلى السوق كان (فرحان) يمشي خلفها وهو يحمل زنبيل التسوق، وفي النهاية هرب فرحان من بيت أسياده الشيوخ باحثاً عن حريته في أماكن بعيدة..
من هذه الافتتاحية أريد أنْ أدخلَ في صُلب موضوع (الزنوجة) التي ظهرت كنوعٍ من صرخة مدوِّية للهوية وشقاء الوعي، والمعاناة التي تكبّدها ذوو البشرة السمراء عبر قرون من الزمن، ثم تحول إلى اتجاه متدرّج ضمن اتجاهات ما بعد (الكولونيالية) مع تنامي حركات التحرّر في القارة السمراء ومنطقة الكاريبي.. و(زنوجة) أصلها لاتيني، مدلولها يشير إلى خصائص أسلوب ذوي البشرة السمراء الذين حاولوا إثبات وجودهم نتيجة اضطهاد سياسي طويل الأمد، إذ بدأت هذه الحركة منذ عام 1919 وامتدّ نشاطها إلى باريس، فنُشِرت روايات وقصائد في مجلة (العالم الأسود) بهدف إبراز النتاج الفكري للملوّنين، والْتَفَّ حولَها الكثير من الأدباء في العالم، وقد ظهرت هذه الحركة كَرَدِّ فعلٍ للاضطهاد الذي حدث لهذه الشعوب في ظل الاستعمار الأوروبي، إنّ الوعي بالذات الافريقية والاعتراف بخصوصيتها وتفرّدها هو أوّل شرط لإعادة الاعتبار لأبناء هذه القارّة، ورفع مظالم التاريخ وأعباء الذاكرة عنهم، لهذا يَشْتَرِط الكثير من المفكّرين السّمر أنّ على الرَّجل الأسمر الاعتراف بزنجيته، وبأنّها شيءٌ آخر غير الصورة النمطيّة السّلبيّة التي يحاول الرجل الأبيض اختزاله فيها، لذلك انتشرت هذه التَّسمية سريعاً في كل القارة الأفريقية وأنتجت نتاجاً فكريّاً وإبداعيّاً ثرّاً في مختلف المجالات والفنون، الآن لنسأل أنفسنا: هل نحن عنصريّون؟ خصوصاً حين أُقَلِّب كُتبَ التاريخ والديانات والفكر والأنثروبولوجيا، أَكْتَشِفُ سريعاً أنّنا عنصريّون بامتياز والدّلائل كثيرة جداً في الواقع وفي الماضي والحاضر والتراث والفكر والثقافة، وهناك الكثير من الأحاديث الموضوعة والمُخْتَلَقة التي أُلِّفَت لتأكيد العنصريّة والكُرْه للأجناس البشرية المختلفة، منها مثلاً حديث عن الرسول (ص) لا يستقيم أبداً مع تسامح الإسلام واحترامهِ لكرامة الإنسان، إذ يؤكد على ذَم الشعوب السمراء والاِستنقاص من كرامتهم مثل: (إيَّاكم والزّنجَ فإنّه خَلْق مشوّه)، و(شرار الناس أسود كالقير)، -تفسير الجلالين- و(لعن الله السودان فإنَّ ذا الثديَّة منهم) و(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يشرك في نسب السودان)، وفي كل هذا السياق يؤكد (د. نادر كاظم) في كتابه تمثيلات الآخر: «إلى أنّ صُور السود في المتخيَّل العربي قريبة إلى حدٍّ بعيد من صور السود في المتخيل الغربي منذ القرن (15)، فالسود في هذا المتخيّل الأخير بهائم بريَّة ذات طاقة جنسيَّة هائلة وطبائع إجراميَّة وولع بالطرب واللهو»، كتاب (ايليس كاشمور صناعة الثقافة السوداء)، وقد فهمنا أنّ السواد هو لعنة إلهيَّة حلّت بذُرّيّة (حام بن نوح) على أَثَرِ دَعوة نوح على ابنه، أحاديث اللّعنة هذه تسرّبت إلى الثقافة العربية الإسلامية من خلال الإسرائيليّات التي توغّلت في النص الديني الإسلامي وتَقَبّلها الجميع، وفي إثر ذلك صار الواقع المؤلم لذوي البشرة السمراء في جميع أنحاء المعمورة جحيماً لا يُطاق فَنُبِذوا وأُبعدوا وحوصِروا بعيداً عن المجتمعات البيضاء، ومن هنا حدثت الثورة والتمرّد خصوصاً ثورة الزنج في البصرة التي استمرت لسنوات طويلة، ومازال الكثير منهم ينتشرون في البصرة والعمارة والناصرية، وقد يصل عددهم إلى أكثر من مليون ونص، حيث يعاني معظمهم من سوء المعيشة -تحت خط الفقر- ويسكُنون في العشوائيات في بيوت من الصفيح، لكنّهم أنتجوا رغم هذا الفقر المدقع نجوماً في الفنون والرياضة والأدب، وهناك حركات اجتماعية ثورية لهم ضد التمييز العنصري، كحركة (جلال ذياب) في البصرة -حركة العراقيين الأحرار- الذي طالب فيها بحقوق الأفروعراقيين، وكادت حرَكَته أنْ تتحول إلى ثورة اجتماعية ضد التمييز العنصري قبل أنْ يتم إسكاته بالرصاص الكاتم عام 2013.
إنّ مجتمعنا العراقي للأسف الشديد أثبت عنصريّة مقيتة تجاه هؤلاء الناس، تلك العنصريّة التي ورِثوها من تقاليد وأفكار وروايات تاريخية ودينية شوّهت معالم الدين وروحه السَّمحاء في التعامل مع بني البشر، إنّ هذه الأقليّة العراقيّة السمراء تطمح إلى الاعتراف بوجودها وحقوقها قانونيّاً، وتُطالب بالاعتذار الرسمي عن التاريخ الطويل من التمييز والعنصرية ضدهم وتشريع قوانين تَمنع أيَّ شكل من أشكال الاضطهاد تجاههم، إنّ حال هؤلاء السّمر هو كحال صديقي (فرحان) 
الذي هرب من عبوديّته الطويلة باحثاً عن حرية يحققها بيده مهما كلّفه ذلك من ثمن.