في نقض الصعلكة

ثقافة 2022/04/04
...

  علي وجيه
 
حتّى اللحظة، لا أفهمُ لِمَ تأخذُ الصعلكة سياقاً ثابتاً في الأدب العراقي، بين أدباء أنجزوا مشاريع جديرة بالاحترام، وكانت مؤثّرة عربيّاً، ووصلت على أعتاب العالميّة؟. 
والصعلكةُ هنا، تلك التي تواجهُ بتراً واضحاً، وانحرافاً دلالياً عن «الصعلكة» و»الصعاليك» بمعناهم التراثيّ، والأمرُ واضحٌ جداً ولا يحتاجُ الاستفاضة به أكثر، فصعلوكُ الأمس كان قاطع طريق، ذا كرامة، يُفضّل أن يكونَ أهله وحش البرّ وبرد الصحراء، وصعلوك اليوم، أو صعلوك الخمسين عاماً الأخيرة، هو شخصٌ بالغالب يكتفي بعدم الاستحمام، وأن يكون كحوليّاً، أن ينام بالشارع، وبالغالب بلا نصٍّ يُعتدّ به، حجماً أحياناً، ونوعيّةً أحايينَ كثيرة.
إنتاجُ نصّ ورؤيا تجاه العالم، في بيئةٍ أدبيّة عربيّة، يكونُ الأدبُ والشعر فيها شيئاً مركزياً، يحتاجُ إلى ما هو أكثر من الورقة والقلم، وتدوين العابر واليوميّ الهامشيّ، النصّ هو معملٌ كاملٌ، مشغلٌ فيه من المعرفة والانكباب على صناعته، وهذا الأمر يحتاج استقراراً جزئيّاً، أو تامّاً، وأن يكون القلق الفعليّ، والضياع، والتشرّد، هو في داخل الذات، بحركتها بين الفرد والنصّ، لا أن يكون تشرّداً في الشارع، وانعداماً في النصّ.
لم يترك أيقونة التصعلُك العراقيّ جان دمّو، سوى مجموعةٍ أصغر من جواز السفر (أسمال)، وكُتيّب مترجَم عن سلفادور دالي، ولم يترك عبد الأمير الحصيري، رغم إبداعه، سوى دواوين قليلة، لم تكن لترى النور لولا الراحل عزيز السيّد جاسم، الذي حقّقها ونشرها بمجلّدين متفرّقين، وكذا الحال مع صباح العزّاوي وهادي السيّد حرز، اللذين لم يتركا شيئاً سوى وريقات متناثرة في الصحف، والأمر ينسحبُ على أسماء كثيرة، لم تنتبه لمشغلِها بقدر ما انتبهت لظاهرةٍ اجتماعيّة، غالباً ما تكونُ متعلقةً بالسباب، وعدم وجود النظافة الشخصيّة، ثم الإدمان على الكحول والموت المبكر نسبيّاً. 
لا يوجدُ حرَجٌ أكثر من أن تولد في العراق، حيث ينتشرُ حولك الشعراء ذوو التجارب الفذّة، التي تمتدّ على عقود، تحوّلات، مجلّدات عملاقة، تعرفُ فيها هذا الشاعر أو ذاك، صعوده ونزوله، وأدقّ اختلاجاته، لكن في حين يُنهكُ فوزي كريم، صاحب القلب المُعتل، نفسه شعراً ونقداً وترجمةً وتشكيلاً وتنظيراً موسيقيا، وسوى ذلك، لا يستقرّ بقلب الستينيين في السرديتين: القومية – البعثية، اليسارية – الشيوعية، بقدر استقرار جان دمّو، الذي كان آخر ثماره الحيّة في الذاكرة الثقافية هي شتيمةُ «ابن المرحاض»، وجملةُ «حبيبتي فمُكِ حمارٌ كهربائيّ، حيثُ أسناني تسافرُ مع الريح».
«الصعلكة» بوّابةٌ للهروب من الواقع، والمسؤولية، فالأدبُ يصنعهُ الانتظامُ الحياتي، والفوضى الداخلية، وحين تنعكسُ المعادلةُ بالغالب، تنفلتُ ثوابتُ إنتاج الرؤية والرؤيا، ومَن لا يثقُ القارئ بنظافة بدنه، كيف يمكن أن يثق بعمق نصّه؟ 
هذه ليست دعوة لجعل الأدباء عموماً والشعراء خصوصاً نماذج ملتزمة، أو حتى متديّنة، لكن بوّابة الفوضى الشخصيّة، بقيتْ مُغرية لمراهقين وشباب، أضاعت منهم أشياء كثيرة، وضيّعت سنواتهم، ولم تُنتِج منهم ما يُمكن ملاحظته أو حتى احترامه، بينما بقي مَن يتعاملُ مع النصّ تعاملاً جادّاً، تعاملَ الالتزام الفعليّ، يُنتج، ويصنع متأثرين، ويخلق تجربة جديرة بالانتباه والتعلّم منها.
أن تكون الصعلكة مبرراً لفشلٍ حياتيّ، في إطار العمل والأسرة، هذا شيءٌ مُتفَهَّم، لكن أن تكون ملمحاً لعمقٍ لا نعلم أين نقرؤه، ولا كيف يُنشر، ولا كيفية التأثر به، فهذا إجحافٌ بحقّ الأدب وحتى قلّة الأدب، فالسكّير لا يدّعي العمق، في الحانات.
تصعلَكْ في نصّك، وانتظمْ لصناعتِهِ.