فن الكذب

ثقافة 2022/04/04
...

 كاترين مونروا
 ترجمة: كامل عويد العامري        
في عصر الإنترنت والأخبار الكاذبة، فإن الحدود بين الواقع والخيال واهية للغاية وسهلة الاختراق لدرجة أن الكذب، المنتشر في كل مكان في مجتمعنا، يبدو أنه سيطر على حياتنا. في العالم السياسي - هذه ليست مفاجأة حقًا - ولكن أيضًا في المجالات الاقتصادية والعلمية وفي حياة كل فرد الشخصية، مع الفكرة المقبولة عمومًا أن "الجميع يكذب".
في عالمنا ما نسبته 2.0، يحل خيال الحقائق البديلة محل الصدق، والمتحدث الذي يدلي ببيانات ذكية ومضللة هو الملك.
 
الكذب أمر خطير قررت الكاتبة كاترين مونروا معالجته من أجل تفكيك آلياته المعقدة: إنها تدعو القارئ في رحلة تخريبية إلى قلب هذه الترتيبات الصغيرة مع الواقع الذي يقترب أحيانًا من الفن الراقي، من خلال مزج علم النفس، والفلسفة والأدب والسينما. حيث كل شيء (أو كل شيء تقريبًا) ما أردتَ دائمًا أن تعرفه عن الكذب ولكن لم تجرؤ على السؤال. هنا الترجمة الكاملة لمقدمة الكتاب، الذي صدر عن دار لاروس 2020.
ربما كنت دبلوماسيًا في طمأنة والدتك بأنها لا تبدو "في عمرها" وأنت تدفع بمؤشر التملق إلى كونها أصغر بعشر سنوات! لقد تجاوزت الأمر قليلاً عندما أخبرت رئيسك في العمل أنه كان "رائعًا" في خطاب نهاية العام المثير للاشمئزاز الذي يرفع الروح المعنوية، كان من الممكن، باعتراف الجميع، أن تثير استعدائه قبل مكافأة عيد الميلاد مباشرة. أنت تقر أيضًا بأنك شوهت إلى حد ما الحقيقة البغيضة عندما أخبرت ابنك أن الهامستر الصغير قد هرب من القفص بينما كانت أمه قد التهمت جسده الصغير الطري ودون مزيد من اللغط، كان من الممكن أن يؤدي بك إلى تشويه سمعة الثدييات، من يدري، كل البشرية - اختلاق 
مؤقت. ألم يكن صغيراً قليلاً لتخبره عن أن كرونوس، [كما في الأسطورة] يلتهم جميع أطفاله؟
أنت لست الوحيد الذي يقوم بهذه الترتيبات الصغيرة مع الواقع. يمكنك أن تشعر أن هذه الصديقة المزعومة التي لم تكلف نفسها عناء الرد على مكالمتك للحصول على المساعدة، بحجة أنها نسيت هاتفها الخلوي في سيارتها، فتروي لك بعض الأكاذيب. وتلك الأخرى تدعي أنها أحبت كتابك ولم تقتنيه!  وتتمنى أن تحصل على أقل ما يمكن عندما يبدأ السياسي جملته "بأمانة" أو "بصدق".
في العصور الوسطى، لا أنت ولا من حولك قد خاطر بمثل هذه الازدواجية. وأولئك الذين يشتبه في انحرافهم عن جادة الحقيقة يواجهون اختباراً لكشف الكذب يتسم بالفعالية الهائلة مع  »حكم النار« أو» حكم الماء « عند اختيارهم1. 
وكان الخيار الأنسب بالنسبة للكاذب المزعوم يتلخص في إمساك قضيب حديدي حام أو يرفع قدرا من الماء المغلي، إذا شفي الجرح بعد ثلاثة أيام، كان علامة من الله أنه يقول الحقيقة. ويكفي القول إنه بالنظر إلى ظروف النظافة الصحية والوقائية، فإن فرص الإعفاء من العقاب من دون الاستسلام لجروحه المتقيحة كانت ضئيلة إلى حد ما، وإن كانت هائلة مقارنة بظروف الاختبار الثاني الذي يصفه البعض بأنه "خاسر في الحالتين". 
وبالنسبة لحكم الماء، كانت أقدام المشتبه فيه تثقّل بحجر ثم يلقى به في بركة: فإذا طاف الجسد، ثبت ذنبه ــ وهو بالضرورة ساحر، ومصير هذا الإنسان المقيت معروف -. بينما الغرق كان تبرئة له. وباختصار، ما لم يكن قد مارس قطع النفس عند الغطس، لم يكن أمام البريء المفترض سوى فرصة ضئيلة للهرب، وكان اختبار كشف الكذب، سواء كان بالنار أو بالماء، رادعا تماما.
أصبح البحث الرسمي عن الأكاذيب أكثر حضارية مع ظهور جهاز كشف الكذب الذي اخترعه الإيطالي سيزار لومبروسو، أحد آباء المدرسة الإيطالية لعلم الإجرام، في عام 1885. واستنادًا إلى مبدأ أن الكذب يثير المشاعر، التي بدورها تؤدي إلى إثارة نفسية فسيولوجية ملحوظة، كانت لدى أستاذ الطب الشرعي فكرة رائعة لقياس ضغط دم المشتبه به.
وطور طالب الطب الشاب، جون أوغسطوس لارسون، في عام 1920 نسخة أكثر تفصيلا من جهاز كشف الكذب، جعلت من الممكن تجريم خباز مختل عقليا متهم باختطاف وقتل كاهن، كان من المستحيل عليه أن يخدع القضاة، فقد أربكه الرسم البياني لإجاباته. 
اكتمل جهاز الكشف عام 1930 بجلفانومتر [أداة قياس شدة التيار الكهربائي المنخفضة] الذي يقيس تعرق الجلد بالمقاومة الكهربائية.
أصبح جهاز كشف الكذب بعد ذلك أمرًا ضروريًا للاستجواب العلمي: تتكون التقنية من طرح أسئلة عامة غير ضارة، والتي يمكن للمحقق التحقق من صحتها والتي تعمل كمقياس لردود فعل الفرد. على سبيل المثال، إذا كنت تريد معرفة الحقيقة عن طفلك البالغ من العمر 10 سنوات: "هل تحب البروكلي؟" يبدو وكأنه سؤال مناسب، ثم اسأل الشخص الذي يُزعم أنه بريء عن الحقائق ذات الصلة بالتحقيق: "هل لعبت ألعاب الفيديو في غرفة المعيشة الليلة الماضية؟" إذا قال ابنك إنه لا يحب البروكلي ولم يستخدم وحدة المفاتيح الخاصة به، وكانت آثار ردوده على جهاز كشف الكذب متطابقة، يمكننا أن نفترض أنه يقول الحقيقة.
بعد أن استخدمت معظم الدول جهاز كشف الكذب مدة طويلة خلال الحرب الباردة كدليل قاطع، فقد استحسان اعتماده.
في كندا، لا يزال نظام العدالة المدنية معترفًا به. وفي الولايات المتحدة، كل من يرفض الامتثال له سيثير حتمًا الشكوك حول شخصه. 
قد تكون نتيجة جهاز كشف الكذب مستندًا يضاف إلى ملف المدعى عليه، ولكن ليس له قيمة الدليل العلمي: بافتراض أننا بمجرد أن نثبت شيئاً باستخدامه، سيكون وجود كذبة وليس حقيقة. 
وفي فرنسا يُحظر استخدامه في البحث عن الأدلة، حيث يعتبر إجراءً مصممًا لانتزاع الاعترافات، ومن ثم يتعارض مع احترام كرامة الإنسان التي تضمنها المادة 3 من الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان، والحق في التزام الصمت وعدم تجريم أي شخص يتعرض للملاحقة.
بمرور الوقت، تم انتقاد موثوقية جهاز كشف الكذب على نطاق واسع، أولاً وقبل كل شيء كمصدر محتمل للظلم: يمكن أن يصبح الشخص البريء متوترًا عاطفياً بسهولة لسبب خارج حالته، كما يقول بيرتران رينار، أستاذ علم الجريمة في جامعة لوفان 3، في حديثه عن بلجيكي مشتبه بارتكاب جريمة قتل شابة شوهدت وهي تدخل المبنى الذي يسكن فيه. 
كان متوتراً بشكل متزايد، واستمر 
في إنكار وجوده في المبنى، وكان لديه من المقومات التي تجعله الجاني المثالي.