هدية حسين

حين نحب يصبح كلّ شيء قابلاً للانكسار، هذه العبارة التي جاءت على لسان إحدى الشخصيات في رواية (لأنّني أحبك) تطرح أكثر من سؤال نختلف على إجابته بحسب رؤيتنا للحب وعلاقات الصداقة بشكل عام: كيف يمكننا التعافي والتحرر من الحقد تجاه شخص تسبّب في قتل الرغبة لدينا، وسلبنا حقنا في العيش بأمان فلم نعد قادرين على الحب ومواصلة الحياة، والأهم كيف نتعافى ونتخلّص من الألم بأقل الخسارات؟.

(لأنني أحبك) رواية الفرنسي غيوم ميسو، الروائي الذي احتلت كتبه قائمة الأفضل مبيعاً، وهو من مواليد 1974، غادر فرنسا الى الولايات المتحدة الأميركية في التاسعة عشرة من عمره ثم عاد إليها ورأسه مليء بالأفكار فحقق حلمه وأصبح روائياً، سبق لنا أن تناولنا روايته (غداً) في هذه الصفحة، وهي رواية تتحدى قوانين الزمن وتدور حول التباس المشاعر وكيف يأتي المستقبل ليعيش في الحاضر.

قد يشير العنوان (لأنّني أحبك) الى علاقة فردية بين رجل وامرأة، وغالباً ما يحدث ذلك، لكن الأمر في هذه الرواية يتناول نسيج العلاقات التي تنضوي تحت يافطة الحب، والدوافع والأهداف من ورائه، ولماذا اختطفت طفلة صغيرة (وهو الحدث الأهم) من بين أحضان أبويها؟ وكيف تغيرت حياة الأب فأصبح مشرّداً، بينما الأم تجاوزت المحنة وواصلت حياتها كأن شيئاً لم يكن؟، ومن هي الشخصيات التي لعبت دوراً مهماً في هذه الرواية التي انفتحت على عوالم إنسانية يصعب الوصول إليها في زمن تشابكت فيه الأمور وتعقدت؟.

أبرز شخصيات هذه الرواية: الأب مارك وهو طبيب نفسي، وزوجته نيكول الأم وهي عازفة مشهورة، وكونور صديق مارك وهو أيضاً طبيب نفسي وله كتب عدة أشهرها كتاب (البقاء على قيد الحياة)، وإيفي المراهقة المتشرّدة التي تحلم بقتل من تسبّب بموت أمها، في البداية تبدو الشخصيات مستقلة وبعيدة عن الحدث الذي يحرك العمل وهو الاختطاف، لكن ما إن نتوغل في القراءة حتى يكشف لنا غيوم ميسو أن جميع هذه الشخصيات مترابطة، حين يفصح عن التاريخ العائلي لكل شخصية كما لو أنه طبيب نفسي يسبر غور مرضاه ويخرج الغاطس في أعماق النفوس، وذلك عندما يمر على مرحلة الطفولة البائسة لكل شخصية وما حدث لها قبل أن تكون جزءاً من هذا الحدث الذي يحرك المخيلة في هذه الرواية، وهكذا سنعرف قصة الصداقة القوية والعميقة التي ربطت الطبيبين مارك وكونور حيث عاشا في حي فقير وقذر تسود فيه ثقافة العنف والقتل والخراب، ثم كيف استطاعا أن يتجاوزا أصعب الظروف ويصبحا طبيبين مشهورين وتستمر صداقتهما، لكن غيوم ميسو يراوغنا ويضعنا في دائرة الشك بتلك العلاقة كلّما مضينا في القراءة، إلا أن الخيوط تنفك تدريجياً لتمحو الشكوك، ثم نعتقد أن للأم دوراً في اختفاء طفلتها، نتيجة صمتها بعد اختفاء الطفلة خصوصاً وأنها لم تعد تتكلم عن ذلك الاختفاء فواصلت حياتها كأن شيئاً لم يكن؟

بعد ما يقارب نصف الرواية ستظهر شخصية جديدة وتضيف للرواية بعداً جديداً، إنها أليسون ابنة لملياردير شهير ومدمنة على المخدرات، ورثت في ما بعد ثروته الطائلة لكنها عاشت حياة غريبة لدرجة أنها أصبحت تحتل الصدارة في المجلات والصحف ومواقع التواصل التي تبحث عن فضائح، لم تتوان أليسون أن تقوم بأفعال غريبة، فوريثة الملياردير مدمنة أيضاً على السرقة، وتغيير عشاقها خلال فترات قصيرة، تبدو قصتها خارجة عن سياق الأحداث في البداية لكنها ستلتقي الدكتور مارك وستنكشف الكثير من الأسرار في حياتها وتكون جزءاً من هذه الرواية الممتعة والمشوّقة.

كل شخصية لها روايتها، تشدها النظرة للحياة ومدى تقبل الآخر من عدمه والهدف الذي تعيش من أجله، فإيفي المتشردة والجائعة على الدوام، التي لم تعرف والدها الحقيقي، تحكي روايتها للطبيب مارك وتعترف بأنها ستقتل من تسبب في موت أمها المريضة، تمارس السرقة وتجمع المال لشراء بندقية، وأليسون تلتقي كونور في بار الطائرة وتحكي حكايتها الغريبة، وتتسلل حكاية الطبيب كونور عن طريق الصدفة أول الأمر لتكشف خبايا ما كان لصديقه الطبيب مارك أن يعرفها لولا ما حدث لابنته ليلي، وسنعرف من ليلي ببطء شديد كيف اختفت ولماذا صمتت الأم، وأين عاشت خلال خمس سنين من الغياب، أما الأب مارك فهو الذي تحمل الوجع بعد اختطاف ليلي ولم يستطع العيش بشكل طبيعي على الرغم من أنه طبيب نفسي يعالج المرضى ويعلمهم كيف يتجاوزون الصعاب، هجر بيته وعاش في المجاري وأنفاق المترو، قبل أن يأتي من يخبره بأن ابنته على قيد الحياة في مدينة أخرى، فهل سيعود حقاً كما كان رجلاً طبيعياً نظيفاً ويعاود نشاطه في المهنة التي أحبها طوال عمره؟ أم أنه سيرتد الى أكثر مما أصبح عليه عندما سيكتشف الأسرار التي غيرت حياته من دون أن يدري ما يحاك في الخفاء، وعلى الرغم من اضطراب الشخصيات ومِحنهم، سيكون ثمة خيط للحب يرمم العلاقات وينسجها، يسير ببطء شديد ويكاد لا يُرى، لكنه يعلن عن نفسه من حين لآخر قبل أن يتضح تماماً.

(لأنني أحبك) رواية نفسية بامتياز وبأسلوب له تفرّده الخاص، تُخرج الغاطس وتكشف أسباب اضطراب شخصياتها ومدى ما يصل إليه الإنسان من تلاعب في المشاعر وانحطاط من أجل حياة زائفة، رواية تعيش معها بكثير من الألغاز قبل أن يفكك غيوم ميسو ألغازها، تجبرك على المتابعة وتقول لك: خذ حذرك أمامك مطبّات، في وقت تكون فيه رؤيتك للأشياء مستقيمة وواضحة، وترى الأشياء بعين الرضا وتعطيها قيمة عليا بينما (الأشياء التي تمتلك أعلى قيمة هي الأشياء التي لا قيمة لها).. ترجم الرواية محمد عثمان، وصدرت سنة 2012 عن المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء، المغرب.