طبقات الوعي عند إدموند هوسِّرل

ثقافة 2022/04/09
...

  بقلم: دوغلاس جيلز
 ترجمة: محمد حاذور
كيف نتعاطى، مع العالم الموضوعي، لهي تجربة فردية للغاية!، قلة من الفلاسفة الذين أسسوا فرعًا جديدًا للفلسفة، ومن بينهم، الفيلسوف المورافي إدموند هوسرل (1859-1938). إنّه مؤسس علم الظواهر (الفينومينولوجيا)، وهو كما يبدو عليه: دراسة الظواهر. في حالة هوسرل، إنها دراسة الظواهر في حدود وعينا. فلسفة هوسرل معقدة للغاية، كونها تنطوي على استكشافات معقدة لإدراك الإنسان ومعرفته. بالنسبة لهذه المقالة، سأسلط الضوء على واحدة من أفكاره والذي يبدو أنه يتحدث بصورة جليَّة عن تجاربنا اليوميَّة.
مستويات الوعي
الوعي البشري هو سرٌّ لم يتوصل لاكتشافه أحد بعد، لكن هوسرل، اكتشف ببصيرة ثاقبة ذات أهمية بالغة حول كيفية نشاط وعينا. باختصار، تجاربنا الآن تتمظهر وتلوّن من خلال تجاربنا السابقة. كيف نتعاطى، مع العالم الموضوعي، لهي تجربة فردية ذاتية للغاية.
 ليس من الصواب أن نقول إنّنا نختبر الأشياء في العالم، إنما الأدقُّ أن نقول، إننا نختبر الأشياء في الوعي. قال هوسرل، إنَّ الأشياء موجودة بالنسبة لنا في وعينا فقط. هناك تلميح لجورج بيركلي في الشأن هذا، والجدير بالذكر أن بيركلي لم يكن أحمق جدًا. صخرة على كوكب يبعد عنك سنوات ضوئية، ليست شيئا بمقدورك توقعه أو حتى إدراكه. ومع ذلك، فمن الغرابة أنّك تفكّر في مثل هذا الكائن المحتمل. هذا يثبت وجهة نظر هوسرل. لا شيء له معنى بالنسبة لنا ما لم يخلق وعينا ذلك من خلال قصد الوعي باتجاه الشيء.
هذه العلاقة بين المعنى والوعي، تخلق مشكلة. إذا كان الفهم الموضوعي داخل وعينا وهو المعني بجعل الأشياء ذات مغزى، فكيف يا ترى يمكننا الحصول على معرفة ما بالأشياء المستقلة عن أذهاننا؟ إذن، لم يتبقَ لنا سوى أحكام ذاتية تمامًا حول الأشياء؟ إجابة هوسرل المثيرة للاهتمام والثاقبة هي تبنِّي الذاتية وإدراج ذلك في منظورنا إلى العالم.
ثمة مستويان من هذه الذاتية، وكلاهما يؤثر في وعينا. المستوى الأول هو الداخلي، الشخصي. تتشكل الظواهر العقلية (الفينومينولوجية) من خلال وعينا، كما اتفق كانط والمثاليون الألمان كلهم. ما يضيفه هوسرل إلى ذلك، أن تجاربنا السابقة تسهم في كيفية تشكيل وعينا للظواهر. يؤثر كل فعل من أفعال الوعي، سواء كان خبرات حسيَّة أو تفكير، على وعينا، وهذا له دور بالغ الأهمية على تجاربنا المستقبليَّة. يسميها هوسرل «ترسيب المعاني» الذي يتراكم داخل وعينا، طبقة تلو طبقة. إنَّ تجاربنا وردود أفعالنا وأفكارنا ومشاعرنا كلها تخلق رواسب في وعينا. إنها تغير بشكل جذري كيفية إدراكنا للأشياء والتفكير فيها.
ضَعْ باعتبارك تجربة ما. إنك تقابل فردا، وتكوِّن انطباعا أوليا، وهذا الانطباع الأول، كما نعلم، يؤثر في كيفية تجربتك مع هذا الفرد. كلما تعاطيت أكثر مع هذا الفرد، تتعلّم المزيد عن الفرد وتطور مفهوما أكمل عنه. لنفترض أنه بمرور الوقت تصبح صديقا له، وبالطبع تؤثر الصداقة على تصورك له؛ كلما زاد الوقت الذي تشاركه معه، زادت تلك الأحاسيس والمشاعر حول الفرد الذي يشكل تصورك لصديقك. افترض الآن أن هذا الصديق يخونك بطريقة مقصودة وتؤذيك بشدة. هل يمكنك أن تنظر إلى هذا الفرد بالطريقة نفسها مرة أخرى؟، هذا هو الترسيب. باستخدام وعيك، يمكنك إلقاء نظرة على ذكرياتك والتفكير في الأوقات الجميلة الماضية والمشاعر الدافئة التي مررت بها، ولكن الآن الأمور مختلفة.
المستوى الثاني من الوعي، يتعدى الفردانيَّة، إنَّه ما وراءها ولكنه خاص بالحياة الفردية. يقدم هوسرل فكرة أصبحت مهمة جدا في الفلسفة القارية: «عالم الحياة»، عالم الحياة هو الذي نعيش فيه؛ إنه العالم الذي نختبره. تماما كما لا يمكننا اختبار الأشياء بصرف النظر عن الترسبات الخاصة بنا في الوعي، لا يمكننا اختبار الأشياء بمعزل عن سياق العالم.
مع الأخذ بالحسبان طبقات الوعي هذه، يدعو هوسرل العلماء «المنظرون الذين يتجاهلون الذات». الافتراض المركزي في العلم، هو أنه يمكن كشف الحقيقة الواقعية لنا. كان هذا الرجاء منذ أواخر القرن السادس عشر (على سبيل المثال، فرانسيس بيكون)، واستمر حتى زمن هوسرل. يؤكد هوسرل أن الحقيقة هي أننا لا نختبر الأشياء النقية؛ نحن نختبر الأشياء من خلال وعينا المترسب وعالم الحياة الذي نعيش فيه. العلماء ليسوا استثناءً من هذه المسألة. قال هوسرل، إنَّ العلم يمنحنا طبيعة مثالية وموضوعية بسذاجة. ينسى العلماء أنّهم يمارسون العلم كأشخاص في عالم الحياة. العلم هو نشاط اجتماعي ضمن سياق اجتماعي يغرس الأنشطة ذات المعاني الاجتماعية. ينسى العلماء أيضًا أنهم أفراد، يختبرون كل شيء، بما في ذلك تجاربهم، من خلال وعيهم الشخصي المترسب.
لا يقول هوسرل، إن العلم متحيّز للغاية وليس بمقدورنا استخدامه، إنّما بحاجة إلى أن نكون مدركين لطبقات المعنى والوعي التي يتم من خلالها اختبار العلم. العلم هو الموقف الذي يرى العالم من خلال فهمه الخاص له. لأنَّ معرفتنا مسؤولة عن الكيفية التي ندرك العالم فيها، فإن النهج العلمي يبني التصورات لرؤية العالم بطريقة معينة. إن غض الطرف عن آثار تحيّزاتنا يجعلها محجوبة عن مداركنا.
لا يقف نقد هوسرل عند نسيان العلماء لذواتهم فحسب. نعاني جميعا من هذا التحيز الضمني لرؤية العالم من خلال وعينا المترسب وعالمنا المحدود. تحسّر هوسرل في عام 1930 على قلة الحوار بين الفلاسفة. إذ يعتقد أن الفلاسفة ذوي وجهات النظر المختلفة بحاجة لمناقشة نظرياتهم المتضاربة بجدية لإيجاد أساس لأرضية مشتركة وتطوير معارفهم. وبدلا من ذلك، قال هوسرل، يظل الفلاسفة في آرائهم الذاتية ومجالاتهم الضيقة من الدراسة من دون الاعتبار للآراء أخرى.
يمكن تطبيق هذا النقد ليس على الفلسفة فحسب، إنما جميع المجالات والفروع الأكاديمية. الأكاديميون هم بشر ليس إلا، بالطبع، والنقد القائل بأنَّ الناس يبقون ضمن تحيزاتهم الشخصية ولا يصغون للآخرين ينطبق على نطاق واسع. عثر على الترياق لهذا في فلسفة هوسرل وغيره من الفينومينولوجيين والوجوديين. نحن بحاجة للاعتراف بأن كل واحد منا يختبر العالم الواقعي بشكل موضوعي كأفراد وأن هذا الفهم هو عملية تتضمن الاستماع إلى بعضنا البعض.