النّقدُ وعُبُورَاته في التّراث والحداثة

ثقافة 2022/04/09
...

  رشيد الخديري *
يكتسي التراث النقدي العربي أهمية بالغة في التأسيس لمنظورات نقدية وبلورة صيغ لقراءات مغايرة ومختلفة لخطابنا النقدي منذ عصور النهضة إلى وقتنا الرّاهن، ولعلّ هذه القراءات التي تسمح بتعدد زوايا النظر، هي واقعة في صميم الممارسة النقدية وبحثها الدافق والمستفيض من أجل صياغة (نظرية) نقدية عربية خالصة.   وإذا كان هناك من دلالة نستقيها من هذه المفهومات في عملية التنظير النقدي، فهي الانشغال الدائب بفهم واستيعاب هذا التراث، أو التراثات إذا فصلنا في الطرح، بموازاة مع تعدد الأنساق المعرفية والثقافية التي تتشكل منها أضلاع الثقافة العربية، ومن بينها النقد في مختلف تجلياته وطرق اشتغاله.
 إنَّ الشغف بالقراءات النقديَّة التي ترتكز على الانغمار من التراث البياني والكلامي للأمّة، هو من بين الإشكاليات التي تمَّ طرحها منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مع صفوة النقاد العرب، الذين وجدوا في التراث العربي، نقطة انطلاق وارتكاز لأي قراءة، ومن المعلوم، ربما، ومن زاوية أخرى، فإنَّ التراث بما يُمَثِّله من (سلطة مرجعيَّة) لجملة من الممارسات في العالم العربي، فإنَّ ذلك، يعني أننا أمام مجموعة من المآزق، ولعلّ أهمها أنّنا نتعامل مع تراثنا النقدي العربي بطريقة وجدانية، وما تنطوي عليه هذه الطريقة من سقوط في العماء الكليّ، أو في (وهم القدسيّة)، الشيء الذي يتنافى ويتنابذ مع المعرفة الإنسانية في امتدادها المشروط والمرتهن إلى بمتطلبات البحث العلمي الرصين والعميق، ثم، تأتي مسألة (الأدلجة) وانشحان القراءات العربية بخلفيات معرفية وابستيمية معينة.
  إلى ذلك، لا يُمكن أن نصادر حق التراث النقدي العربي في التعبير عن شواغله ومظانه، على اعتبار أنه (سلطة مرجعية) وآليّة لتحقق جملةً من النشاطيّات المعرفية والفكرية والنقدية التي نحن اليوم في أمسِّ الحاجة إليها، لكن، وَجَبَ من منظور آخر، عدم السقوط في الجاهز والسُّكونيّ، واعتبار ما قيل في الزّمن الماضي الأنموذج الأرقى والأمثل، على أن ثمة إشكالية أخرى، وهي أن قراءاتنا للتراث النقدي العربي، تمَّ بطريقة (انتقائيَّة شكلانيَّة)، وما وافق الأهواء والميولات، وكل مرة، نستحضر بشكل واع أو من دون وعي، تلك النُّقود الواقعة تحت إسار الايديولوجيا، ولو أن هناك شبه إجماع على الأدب الكونيّ لا يتأسس ولا يتبلور إلا في حواضن الايديولوجيا.
 إنَّ واقع النقد العربي، يؤُشِّر الى افتقار تام إلى عنصرين مركزيين، وهما:
- المراجعة: بحيث إن أي ممارسة نقدية لها أنساغ وجذور، لا بدَّ لها من مراجعات في المفاهيم والإطارات المرجعيّة ومصادر الاختلاف والائتلاف، ثم محاولات تجذير هذه الممارسة والتَّوجه بها لنسج علائق حقيقيّة وقويّة مع ما يُنتج في الغرب من جديد في المناهج والنظريات. إنَّ أهم ما يُميّز التنظير في الغرب، هو جنوحه الدائم نحو التجديد والتحديث ومراجعة المفاهيم، وهذا ما نفتقده في قراءاتنا النقدية العربية، حيث نظلُّ في رهان مع مفاهيم ورؤى وتصورات بعيدة عن اللحظة الثقافية بصفة عامة.
- إشكال العلاقة: ونتقَصَّدُ به ها هنا، تلك الجدليَّة بين التراث والحداثة، والتي ما فتئ النقد العربي يُعاني منها، وهي إشكالية تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، حتى أضحت في وقتنا الراهن، مجرد (أسطوانة مكرورة مشروخة) ولا تُشجِّع على تبني خيار التَّقدم إلى الأمام، والارتقاء بالخطاب النقدي العربي إلى مصاف الممارسات النقديَّة الخصيبة والمثرية للنقاش، ومن ثمَّ، ظلَّ الخطاب النقدي في منأى عن شروط التجديد والتّبلور، مكتفيا بالدوران في حلقة مفرغة.
  يفترض في القراءات النقدية التّحرر من (النقد المدرسيّ) الذي ساد واعتور مسيرة نقدنا العربي، وهو أمر نَتَفَهَّم غاياته وكفاياته، من منطلق تاريخانية هذا النقد، وخلفيته الفيلولوجية، إلا أنه، ومع ذلك، كان لا بدَّ من الانتقال إلى مقاربات على درجة من الوعي بهذا التراث، في أفق بلورة أسس صلبة ومتينة لممارستنا النقدية، وفي هذا السيّاق، لا بدَّ من الإشارة إلى (سلطة الناقد) في أيّ قراءة، سواء في علاقته المباشرة مع النّصيَّات أو في استدعائه لمنهج معين أثناء المقاربة، لنتفق أوّلا، أنَّ ممارسة النقد، تبقى مهمة شاقة وصعبة. بل مدعاة للإزعاج بتعبير الغذامي؛ الشيء الذي يجعل من النقد؛ خطابا غير مرغوب فيه. النقد سلطة. والناقد حين يقارب أو يقرأ نصا ما؛ فهو في الحقيقة يمارس سلطة تحاول ليَّ عنق النص؛ أو إخضاعه لأهواء وإيديولوجية الناقد؛ وعليه؛ فحافزيَّة النقد وعبوراته في الخطاب والمفاهيم والمحمولات النظرية والمعرفية؛ لا تتأسس - كما أومأنا إليه أعلاه- إلّا في حواضن التأدلج.
  إنَّها علاقة يكتنفها الالتباس والغموض. لكنها تبقى ممارسة حتمية في سيرورات النظرية؛ وتتيح إمكانية تحقيق الفاعلية المنشودة في أفق إنتاج المعرفة؛ بما نملكه وما نتملكه من قدرة على صوغ الأسئلة. إنَّ الأسئلة قلق وترحال. الأجوبة سكون؛ بيدَ أنَّ نظرية النقد العربية ما تزال واقعة تحت إسار السكون؛ تتحرّج من السؤال والقلق؛ وتتأبّى عن الاندراج في قطاع المعرفة.
من هذا الزاوية؛ وربما؛ للتأكيد على هذه السيرورة رغم التباسها؛ فإنَّ النّصيَّات ستظل مفتوحة على جملة من الممارسات؛ هذه الممارسات تختلف من ناقد إلى آخر؛ على اعتبار التباين في تلقي المفاهيم وآليّات اشتغالها عند كل ناقد. إلى ذلك؛ ثمّة أمرٌ حيَّرني؛ منذ بدأت اكتشاف حجب النقد؛ وهو هذا التفاوت بين الميتا لغة (النظرية) والتطبيق؛ معنى هذا الكلام: قد تجد في المقدمة تصريحا من لدن الناقد؛ أنه سيعتمد في المقاربة منهجا معيّنا؛ ويبسط رؤاه وتصوراته وفق محمولات منهجية ونظرية وابستمية؛ لكن؛ بمجرد الغوص بين ثنايا المتن؛ تجد شيئا آخر. لقد حدثت معي هذه الأمور مرارا؛ وما زالت تحدث. لكن؛ تعوّدت في قراءاتي ألا أثق في شواغل النقد. مضايق المعنى هي عمدة أي ممارسة؛ فالاهتداء إلى عمق النص. إلى معاني الأشياء الكامنة فيه؛ لا تتطلب كل هذا الالتباس واللغزيّة؛ وإنما؛ خوض الأشياء كمسلَّمات؛ بعيدا عن أي ما من شأنه تقويض النص.
 
النص ولا شيء غير النص
 رهان النقد صعبٌ. ودائما كنت أقول؛ ثمة نصوص. لكن؛ ليس هناك نقدٌ، وسواء في ممارساتنا، اكتفينا بمقولات النقد العربي التراثيّ أو الانفتاح على منظورات مستجدة، تحت ضغط المغايرة والاختلاف والبحث عن صياغات جديدة لفكرنا النقدي العربي.
 ولا شكَّ أنَّ هذه العبورات في التراث والحداثة، والانغمار في صلب التّحديات الكبرى التي يعرفها عالم المعرفة اليوم، هو ما يدعونا بإلحاح إلى هذه المراجعات الدقيقة في المفاهيم والمرجعية والخطاب، لأنَّ ذلك قمينٌ بمعرفة الجوانب المشرقة في اشتغالنا النّقدي وبنائه على أسسٍ صلبةٍ ومتينةٍ.   
 
*(باحث وناقد من المغرب)