في الاسبوع الماضي قام الرئيس الايراني حسن روحاني بزيارة للعراق. كانت الزيارة ودية واستغرقت وقتاً غير قليل وكان من نتائجها ابرام عدة اتفاقيات ثنائية في مجالات التجارة والنقل. مثل هذا الحدث لابد أن يصيب إدارة ترامب بلسعة محرقة، وكذلك آخرون غيرها ممن يعتقدون أن السبيل الوحيد المجدي في التعامل مع إيران هو محاولة عزلها والاضرار بها.
عوامل التاريخ والجغرافية بين البلدين هي التي تدفع العراق وإيران اليوم الى السعي نحو توثيق عرى علاقات أقرب وأوثق في ما بينهما، وهذه خطوة منطقية لم يكن امام الدولتين بد من اتخاذها، لذا لا داعي لأن يشعر الأميركيون بمثل تلك اللسعة بسببها.
يشترك العراق وإيران ايضاً بحدود يتعدى طولها 1400 كيلومتر، وفي احيان كثيرة كان البلدان يشتركان ايضاً بالمشاكل التي تنشب على امتداد تلك الحدود، ومنها على سبيل المثال مشكلة الاقلية الكردية المتململة والنزاع الحدودي القديم على ممر شط العرب. هذا التعايش الجغرافي طالما حمل معه اسباباً للمتاعب واخرى للتعاون، فشاه إيران مثلاً كان يقدم العون والمساندة لحركة التمرد التي قام بها الكرد العراقيون كوسيلة للضغط على بغداد، ولكنه عاد فعدل عنها كجزء من اتفاقية قدم العراق بموجبها تنازلات تتعلق بوضع الحدود على طول شط العرب.
التجربة التي تركت آثارها عميقاً لدى كلا البلدين هي الحرب المدمرة بين العراق وإيران خلال السنوات 1980 الى 1988 التي بدأها صدام حسين على إيران. تلك الحرب أوقعت مئات الالاف من الاصابات، وكان الدرس البليغ الذي خرج به القادة الايرانيون منها هو ضرورة أن يكون في بغداد نظام صديق لإيران لا يكرر ما اقترفه صدام. وكذلك العراق، الذي عانى ما عاناه من ويلات تلك الحرب المكلفة، فقد خرج من ذلك الصراع بدروس مماثلة تتلخص في ضرورة اقامة علاقات مستقرة مع جارته الشرقية.
من هنا يأتي التعارض بين نهج إدارة ترامب، القائم على أساس جر العالم كله للمشاركة في حملة نبذ إيران ومعاقبتها، وهذه الحقائق الجغرافية والتاريخية الثابتة. العراقيون من جهتهم، على اختلاف توجهاتهم السياسية، يرون في مساعي الولايات المتحدة لإكراه العراق على الانضمام الى حملة الضغط محاولة سقيمة لتصدير هوسها المرضي متنافية مع مصالح العراق، ولهذا السبب تراهم ممتعضين منها. هذا الامتعاض تجلى في الشهر الماضي بعد تصريح ترامب من خلال مقابلة معه بأنه يريد ابقاء قاعدة عسكرية أميركية في العراق لأنه، كما قال، “يريد إبقاء إيران تحت النظر قليلاً لأنها مشكلة حقيقية”. عندئذ رد عليه الرئيس العراقي برهم صالح، متحدثاً بلسان ابناء بلده، قائلاً: “لا تثقلوا على العراق باعباء تخصكم .. لأننا نحن من يحيا هنا.” كما صرح رجل الدين الشيعي العراقي الجليل ذو المكانة الرفيعة آية الله العظمى علي السيستاني قائلاً: “يرفض العراق أن يصبح منطلقاً لإيذاء أي بلد آخر.”
عدا الاسباب الامنية، التي تجعل العراق وإيران يحرصان معاً على استتباب العلاقة بينهما وتجنب اثارة المشاكل لبعضهما، هناك الاسباب الاقتصادية لأن كلا من العراق وإيران يحتاجان الى التجارة المتبادلة بينهما. العراق بوجه خاص يعتمد على استيراداته من الغاز الطبيعي والكهرباء من إيران لمواجهة احتياجاته من الطاقة، وقد وصف رئيس الوزراء عادل عبد المهدي كيف عانى العراقيون من الحصار الاقتصادي الذي فرضته الولايات المتحدة عليهم خلال فترة حكم صدام حسين ثم اضاف: “لن يكون العراق جزءاً من نظام العقوبات ضد إيران أو اي شعب آخر.”
لا تزال بين العراق وإيران جوانب خلاف اخرى وعدم اتفاق، ولكن العراقيين يعون ويتذكرون ان أهم عطاء مصيري قدمته إيران لهم خلال السنوات الاخيرة كان مساعدتهم على تحرير اجزاء كبيرة من غرب بلدهم التي وقعت تحت سطوة ما يسمى “الدولة الاسلامية” أو “داعش”، حيث كانت ايران اهم مصدر للعون الخارجي في دحر التنظيم (وهو عون لم يأت مشروطاً بالتفاوض للاحتفاظ بقواعد عسكرية على الارض العراقية تحت مبرر “مراقبة” خصوم إيران ومناوئيها من هناك)، ولعل الشعور بقيمة هذه المساعدة كان من بين الاسباب التي جعلت روحاني يصيب كل ذلك النجاح الذي حصده في زيارته محاطاً بالتكريم والحفاوة، ومن ضمن هذا النجاح سلسلة لقاءات كاملة مع المسؤولين ورجال الاعمال وشيوخ العشائر العراقيين وغيرهم. مقارنة بذلك كانت الزيارة العاجلة التي قام بها الرئيس ترامب للعراق في شهر كانون الاول الماضي سريعة، بعيدة عن الاضواء، لم تتعد الهبوط ليلاً في قاعدة عسكرية اميركية دون الالتقاء بأي زعيم عراقي.
واحدة من اهم وأكبر النتائج التي افرزتها حرب تغيير النظام، التي شنتها إدارة أميركية سابقة على العراق قبل 16 عاماً، كانت تعاظم النفوذ الإيراني في العراق بدرجة كبيرة. أما اليوم فهناك إدارة اميركية جديدة مختلفة عن تلك، إدارة تبدو مصممة على تغيير نظام آخر في المنطقة مبدية نفس اللامبالاة، وربما سوء الفهم، بواقع المنطقة وطبيعتها والتبعات التي يمكن ان تترتب على ذلك التغيير. فصناع حرب 2003 لم يكونوا يقصدون حتماً تقوية النفوذ الايراني في العراق، لذا ينبغي اعتبار تنامي هذا النفوذ مجرد اخفاق آخر من اخفاقات تلك الحرب. ولكن بعد أن أصبح هذا النفوذ واقعاً اليوم لم يعد يجدي أميركا ان تأرق بسببه، او لنقل ليس قبل الاجابة عن السؤال التالي: “ما الذي ستجنيه إيران من تعاظم نفوذها؟”، لاسيما ان أبرز هدف سعت إيران الى تحقيقه في العراق هو هزيمة “داعش”، وهذا هدف تتفق معها عليه الولايات المتحدة.
لا يزال من مصلحة الولايات المتحدة أن يبقى عراق ما بعد صدام بلداً مستقراً ينعم بالرخاء والسلام، لذلك لن يكون في صالحها الضغط عليه لجعله يشارك في الحرب الاقتصادية التي سترتد بالضرر على العراق نفسه.
كذلك ليس من مصلحة الولايات المتحدة أن تدفع العراقيين الى خرق دستورهم، وهو دستور وضعوه بتشجيع الولايات المتحدة ورعايتها عقب اسقاط صدام. كان بعض السبب وراء ذلك هو الحيلولة دون انزلاق البلد مرة اخرى في صراعات المنطقة ونزاعاتها مثلما كان يفعل في عهد الدكتاتور العراقي السابق. أحد اهم “المبادئ الاساسية” في هذا الدستور هي المادة رقم 8 التي تقول:
“سوف يبقى العراق مراعياً لمبادئ حسن الجوار متمسكاً بمبادئ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الاخرى ساعياً لفض الخلافات بالوسائل السلمية واقامة العلاقات على اساس المصالح المتبادلة المشتركة محترماً لالتزاماته الدولية.”
وهذه كلها مبادئ طيبة.
بول بيلر/عن موقع “لوب لوغ” الصحفي