احترامي للحرامي

آراء 2022/04/09
...

 د. سهام السامرائي                                    
ذكر القاضي أبو علي التنوخي في كتابه (الفرج بعد الشدة) «أن تاجرًا اسمه أبو أحمد الحارثي وقع هو وقافلته التجارية في قبضة أمير لصوصٍ يدعى ابن سيَّار الكردي، وكأن اللصّ بزي الأمراء لا بزي القُطاع.. يدل (سمته) على فهمٍ وأدبٍ .. يروي الشعر ويفهم النحو. 
 
وبدا للحارثي التاجر أنّه وجد الطريق إلى قلب هذا اللصّ الأديب فأنشده أبياتًا يمدحه بها، فردَّ عليه اللصّ قائلاً: «لستُ أعلمُ إن كان هذا من شعرك»!، ثمّ قرّر اللصّ أن يمتحن الشاعر فألقى إليه ببعض القوافي وطلب منه أن ينشئ له شعرًا على نسقها، ففعل التاجر وصدّقه اللصّ ثمّ سأله: «أيّ شيءٍ أُخذ منك لأردّه عليك؟، فذكر له ما أخذ منه فردّه إليه مع متاعٍ لبعض رفاقه في 
القافلة. 
ولم يترك الحارثي الفرصة وقرّر أن يتعرف على حقيقة هذا اللص الأديب، وأن يعرف الظروف التي ألجأته إلى تلك المهنة؛  فأجابه اللصّ بأنّه قرأ في كتاب الجاحظ عن اللصوص أنّ من أسباب ظهورهم في المجتمعات عدم إخراج التجار لزكاة أموالهم، فصارت أموالهم مستهلكة (مستحقة بالكامل) بها، واللصوص فقراء إليها، فإذا أخذوا أموالهم – وإن كرهوا أخذها – كان ذلك مباحًا لهم؛ لأنَّ عين المال مستهلكة بالزكاة». 
وعلى وفق المرويَّات التاريخيَّة فإنَّ كبير لصوص بغداد في العهد العباسي (أدهم بن عسقلة)، ترك وصيةً عند وفاته لأتباعه من اللصوص وممّا قال فيها: «لا تسرقوا امرأةً ولا جارًا ولا رجلاً نبيلاً، ولا فقيرًا، وإذا غُدر بكم فلا تغدروا بهم، وإذا سرقتم بيتًا فاسرقوا نصفه واتركوا النصف الآخر ليعتاش عليه أهله، ولا تكونوا مع الأنذال أو الظلمة أو القتلة». 
إذا كان اللصوص قديمًا يوظفون التأويل الفقهي لتبرير سرقاتهم من التجار من ضمن معادلة اللصّ الفقير والسلطة الفاسدة والأثرياء الذين امتنعوا عن دفع الزكاة للفقراء والمعوزين؛ وأنهم لا يفعلون سوى استرداد ما يستحقونه، تماشيًا مع قول شاعرهم (وأسرقُ مالَ اللهِ مِنْ كُلّ فاجرٍ/ وذي بِطنّة للطيبات أكُولِ)، فضلاً عن أن هؤلاء اللصوص كانوا لا يستفيدون من تلك السرقات، بل يفيدون غيرهم من الضعفاء والفقراء والمحتاجين؛ ولديهم مواثيق عهدٍ وشرفٍ سارية بينهم؛ فما الحجة أو التبرير الذي يوظّفه لصوص اليوم من سُرَّاق المال العام من التربُّح بالحرام والثراء غير المشروع من الوظيفة الذين امتلأت جيوبهم وأنوفهم بملايين الدولارات، وممّن يشغلون وظائف ومراكز عليا تدرّ عليهم أموالاً بالملايين تمكّنهم من العيش في بُحْبُوحة من دون الحاجة إلى مدِّ اليد على المال
 العام. 
فهؤلاء أشبه بقائد أشهر جماعة لصوصٍ في التاريخ العربي (شَظاظ الضُبّي) إذ كان من أخبث اللصوص، حتى ضُرِبَ به المثل، فقيل: (ألصُّ من شظاظٍ). والغريب أنَّ الحراميَّ صار محترمًا مُهابًا يرتدي البدلة الأنيقة وربطات العنق الملوَّنة، ويسكن  القصور الفخمة، حراميّ اليوم تراه بسيارته الفارهة تُفتح له الأبواب وتُؤمّن له الحراسة المشدّدة لحمايته، ولم يعد ذلك المارق المتسلل في جنح الظلام، أو المتبرقع عن أنظار الناس خوفًا من الوشاية به؛ بل أصبح قياديًا في الصف الأمامي يتصدر المجالس والمحافل ويتقدّم الصفوف والمواقع، ويتبوأ أرفع المناصب، بل وجه من وجوه المجتمع، ينطق باسم العائلة والعشيرة، تحتضنه بيئته، وتسانده قبيلته وتدعمه وتحميه وتدافع عنه، وصار يعطينا دروسًا في النزاهة والشرف والأمانة والأخلاق، واثقًا من خطواته، متباهيًا بقدراته، معتزًا بما امتلكه من مالٍ حرامٍ، لأنّه أُجيزَ وأجاز لنفسه النهب والسلب 
والسرقة.
والأدهى أننا نحن مَنْ ننحني له ونعتذر ونصفق ونؤدي التحية ونتسابق للسلام عليه والإشادة به وبإنجازاته الوهمية؛ بل ونضفي عليه هالةً من القدسية، وكأنّه مفوّضٌ من السماء مرفوعٌ عنه الحجاب؛ ونغمض أعيننا تاركين الحبل على الغارب عن رؤيته وهو يمارس سرقاته في وضح النهار،  غير مدركين مدى خطورة هذا الأمر، فالفساد ظهير الإرهاب فحينما يسرق المسؤول مالاً يسهل عليه بيع وطنه 
لأعدائه. 
وهذا إن دلَّ على شيءٍ فإنما يدلُّ على انهيار المنظومة الأخلاقية في مجتمعاتنا كمحصلةٍ لانهيار المنظومة الفكرية 
والثقافية.
وهو مَنْ حوّل المؤسسة التي يرأسها إلى تكيَّةٍ  لنهب المال العام، بمباركة أصحاب النفوس الضعيفة من المنتفعين، لغياب الحسيب والرقيب  والفوضى في ضبط الأمور المالية للدولة، من دون أن يرفَّ له جفنٌ أو يصدّه وازعٌ من ضميرٍ وبلا مخافةٍ من انتقام الله، غافلاً أو متغافلاً عن قوله  تعالى: (وَلا تَأكُلُوا أمْوَالكُم بَيْنَكُم بالبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إلى الحُكَّامِ لِتَأكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أمْوَالِ النَّاسِ بالإثمِ  وَأنتُمْ تعلَمُونَ) صدق الله العظيم. وقال ابن المبارك: «لأن أرُدَّ دِرْهمًا من شُبْهَةٍ؛ أحبُّ إليَّ من أن أتصدَّق بمئة ألفٍ». قال عمر (رضي الله عنه): (كنَّا نَدَعُ تسعةَ أعشار الحلال؛ مخافة الوقوع في الحرام)، وإنما فعل ذلك (رضي الله عنه) امتثالاً لقول النبي (صلى الله عليه وسلم) في حديث النعمان بن بشير: (أن الحَلالَ بَيَّنٌ، وأن الحَرَامَ  بَيِّنٌ، وبَيْنَهُمَا مُشُّتبَهَاتٌ، لا يَعْلَمُهُنَّ كَثيِرٌ مِنَ النَّاسِ،  فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ، فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ، ومَنْ وَقَعَ في الشُّبُهَاتِ، وقَعَ في الحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حُوْل الحِمىَ، يُوشِكُ أن يَرْتَعَ فِيهِ).
وختامًا نهدي مقطعًا من قصيدة (احترامي للحرامي) للأمير الشاعر عبد الرحمن بن مساعد  إلى لصوصنا الأعزاء ممّن صدّقوا أنفسهم أنهم من عِليَة القوم وصفوة المجتمع وسادته.... مع فائق الاحترام
 والتقدير. 
احترامي للحرامي صاحب المجد العصامي/ صبر مع حنكة وحيطة وابتدا بسرقة بسيطة وبعدها تعدّى محيطه وصار في الصف الأمامي 
 احترامي للحرامي صاحب النفس العفيفة صاحب اليد النظيفة/ جاب ها الثروة المخيفة من معاشه في الوظيفة وصار في الصف الأمامي    
احترامي للحرامي صاحب المجد العصامي/ يسرق بهّمة دؤوبة، يقدح ويملي جيوبه، يعرق ويرجو المثوبة، ما يخاف من العقوبة/ صار في الصف الأمامي احترامي
 للحرامي