السرد الفائض في رواية «خطأ مقصود»

ثقافة 2022/04/09
...

   د. علي متعب جاسم 
 
قراءة هذه الرواية ستشُفع بقصد وسؤال أكيدين عن علاقة كتابة النقد بكتابة الرواية. ما الذي يجعل الناقد بعد أن استقرّت تجربته وترسّخت خطوطه الخاصة في الكتابة النقديَّة أن يكتب رواية لا نتكهّن في ولادة ثانية لها؟، وهذا التساؤل سيثير حتما تفرّعات أخرى عن علاقة المخيلة النقدية بالمخيلة الروائية وكيفية تنافذهما وقبل ذلك هل يصح مثل هذا التنافذ؟. 
ليس من السهل الإقرار بذلك، فثمة منطقة محايدة بين الوعي النقدي والوعي الروائي، بين الكشف عن الجماليات وبين صناعتها والخلط بينهما ليس أمرا محمودا. 
أعني بالخلط حين يغلب الوعيُ النقدي وعيَ الكتابة الروائية. إنَّ ثمة مساحة واسعة من التفكير يمكن أن تشكل المهاد الأساس لأي عمل إبداعي وهو أمر معروف في الدرس النقدي مثلما هو معروف أن لكل جنس من أجناس الكتابة تمثُّلا لطبيعة الفكر وتجسيداً له. ليست الرواية بعيدة عن كونها حاضنة للتفكير وممثلة لوجهات النظر لكاتبها، ولكن الأمر مختلف حتما من حيث طبيعة الوعي والمخيلة كما هو معروف. 
لقد كتب إيكو روايته الأولى "اسم الوردة" مضمّنا فيها الكثير من أفكاره وتصوراته بصفته واحدا من أبرز الباحثين في مجال السيمياء وعلاقة النص بقارئه، وهو أمر جعل لهذه الرواية أفقا مفتوحا من التأويلات من غير أن يظهر وعيه النقدي على سطح الكتابة. لكنه ترك للقارئ أن يدرك تلك الأفكار وتلك المساحة الحيَّة من دون أن يشعر بضغط الكاتب وسلطته. إنَّ أفكار النص وثقافته هي السطح المدفون – إن جاز التعبير– داخل شبكة البناء المخيل للنص الإبداعي وهذا ما يضاد طبيعة الكتابة النقدية التي تتوخى انتاج الأفكار بالدرجة الأساس، كما يتضاد مع فكرة استثمار الوعي النقدي في الكتابة الروائية التي حاول البعض استجلاءها. هذا ما يقودنا بدءا لمحاورة رواية "خطأ مقصود" من زاويتين، الأولى كيفية ظهور الوعي النقدي والثانية في تأثيره على بناء الرواية مما أنتج ما أسميناه بـ "السرد الفائض". 
إنَّ المقدمة التي كتبها محمَّد صابر عبيد محاولا استثمار تقانة ما وراء سردية هي نقطة البدء لتشكل ذلك الوعي. ليس بالتشابه المعلن مع بعض الأعمال في العثور على وثيقة مخطوطة كما لاحظنا، وإنّما في تداخلها مع وعي الكتابة. ما وراء السرد بنية مخيلة وإن دلت في شروطها على إحالة الى الواقع. إنَّ ظهور "السارد" بوصفه إنسانا حقيقيا يبقى في ضمن هذه التقانة عملا مخيلا، وهذا ما لم يتحقق في الرواية، وأول ما نلاحظه في هذا الصدد اقتباسه من مقالته "سرديات الجسد.. الأصابع حين تروي" المنشورة في كتابه "رائحة المعنى في جزئه الأول". اعتراضنا ليس في الاقتباس ولكن في تغيير جنس الكتابة من "المقاليَّة الى الروائيَّة" ويتكرّر ذلك في موضع آخر. ليس هذا المهم فقط، وإنَّما المهم في قدرة الذات الساردة على تذويب هذا الوعي. لقد بقيت الكتابة هنا "في موضع التقديم" تعوم في فضاء لا ينتمي الى فضاء الرواية. يأخذنا السارد الى حديث – بدافع وعيه في الكتابة عن الأصابع الى أحاديث لا تتصل بالرواية، وربما اضطر الى اقتباسات من بعض المدوّنات: "من بين الحيل التي ابتكرتها للاحتفاظ بهذه اللقية النادرة تفاديا لاحتمال خسرانها او نسيانها او إهمالها لأي سبب كان تشبيه هذه الأسطر بأصابع اليدين.. وللتيامن شعوب خاصة تقدّس اليمين على مرّ التاريخ ومرّ الجغرافيا لدواعٍ عقدية وشرعية او عرفية.. ومما جاء في مصنفات "أبي زكريا يحيى بن شرف الدين الحزامي النووي الشافعي" أحد أبرز..." "7" وهذا ما نلاحظه في أماكن أخرى لا سيما حين يطغى وعي الكاتب على وعي شخصياته  كما حدث مع "سلام" في كتابة يومياته وقراءة السير الذاتية يقول: "ثمة سِيَر ذاتية بسيطة في لغتها لكنّها عصية على التقليد مثل.. فالتجربة بتفاصيلها المتشابكة هي التي تعطي قيمة لمثل هذه السيرة، وهكذا تتنوّع السير الذاتية بحسب أمزجة وحيوات وتجارب كتابها .222". 
القضية الثانية هو ما أومأنا اليه في العنونة. محمَّد صابر عبيد لم يُحكم بناء روايته لأنّه في الأصل لم يكن مشروعه كتابة رواية. إنَّ قارئها يرتكز الى فكرة نهائية هي في كيفية تسريب كمية هائلة من وعيه بما حدث للموصل على يد زمر الإرهاب وإدانة ذلك الفعل. لذا احتشدت هذه الرواية بفيض كثير من السرد ما أفقدها القدرة على التماسك بصفتها بناءً، وسنشير مثلا الى "قراءة الرسائل الأربع" من قبل "فوزية الأمين" التي لم تحقق دفقا واضحا للبناء السردي ولا للأحداث بعد أن قرأنا "مدوّنة كاتبها "سلام" والى مفاصل أخرى نجدها منثورة في الرواية وهي لا تضيف شيئا سوى إرهاقها. 
أريد الوصول في النهاية أنَّ محمَّد صابر عبيد لم يتخلّص من وعيه النقدي، في كتابة روايته، ويبدو لي السبب أنه اتّجه الى هذا النوع من الكتابة لا بدافع التجريب وإنما بدافع تسريب طاقة هائلة من الأحداث التي عاشها بشكلٍ ما.