حين يتحول الناس إلى أعواد ثقاب

ثقافة 2022/04/09
...

ستار كاووش

لكي يبتكر الفنان شكلاً جديداً في الرسم، فعليه أن ينظر للأشياء والأشكال من زاوية خاصة، محاولاً استنباط تكوينات لا تشبه تكوينات الفنانين الآخرين. وهذا ما فعله الفنان البريطاني لورنس لوري (1887-1976) الذي ابتكر أشكاله التي لا تخطئها العين وملأ لوحاته بشخصيات مزدحمة ومتشابكة تشبه أعواد الثقاب. وقد تفرغ هذا الفنان لرسم مناظر المدينة الصناعية في شمال غرب إنجلترا، وملأ لوحاته بالناس الذاهبين إلى أعمالهم أو العائدين منها. وقد منحَ هذه الحشود، الكثير من الدعابة الممزوجة بالجمال والألفة، كما في لوحتنا هذه التي عنوانها (الذهاب إلى العمل) حيث نرى حركة الناس في يوم ثلجي وهم يتوزعون باتجاهات مختلفة ومتقاطعة للبدء بيوم عمل جديد. وعلى الجانب الأيمن يظهر جزءاً من الباصات التي أوصلت العمال تواً، وفي الخلفية الكامدة تبدو مجموعة من المصانع وهي تنفث دخانها بانتظار بدء العمل في هذا اليوم البارد، فيما عَلَتْ المشهد سماء شاحبة بلون أبيض عاجي.   
عاشَ لوري طفولة غير سعيدة ، ونشأ في جو عائلي قمعي حسب وصفه. ورغم موهبته في الرسم لكن والدته العصبية لم تُظهر أي تقدير لبعض اللوحات الصغيرة التي كان يهديها لها، لكنه مع ذلك يتذكر بعض الكتب التي تلقاها كهدايا من والديه في عيد ميلاده. ولم يكن لديه أصدقاء كثيرون في صباه، لأنهم كانوا يظنونه صبياً مختلفاً وفوق هذا يرسم أشكالاً غريبة. وسط كل ذلك، كان والده لطيفاً معه دائماً وهو رجل هادئ وغير متكلف ويتلاشى غالباً خلف زوجته المهيمنة، طَلَباً للراحة والهدوء. 
قضى لوري سنواته الأولى في ضاحية فيكتوريا بارك، وفي عمر الثانية والعشرين انتقلت عائلته -بسبب الضغوطات المالية- إلى مدينة بيندلبُري الصناعية، وهناك اكتشفَ الكنز الذي سيدخله تاريخ الرسم. فبعدَ أن تَرَكَ المكان الذي تعود عليه، وجدَ نفسه محاطاً بمعامل النسيج ومداخن المصانع بدلاً من الأشجار المورقة في من منطقته القديمة، وهو يقول عن ذلك (في البداية كرهت المكان، وبعد بضع سنوات أصبحت مهتماً به جداً  ثم أصبحتُ مهووساً به) ويكمل حديثه عن هذه المدينة الصناعية (ذات يوم فاتني القطار، فخرجتُ من المحطة لرؤية المكان الذي تجاهلته سبع سنوات كاملة، وهناك رأيتُ مطحنة كبيرة فيها صف كبير من النوافد المحددة بإطارات ذات لون أسود، وقتها صرتُ جزءاً من ذلك الطقس المائل لِلَّون الأصفر الشاحب في سماء تلك الظهيرة الحزينة والرطبة والمشحونة، كان الدخان يتصاعد، بينما الطاحونة على وشك التوقف عن الدوران. ياللغرابة! كيفَ لم انتبه إلى ذلك سابقاً؟ في تلك اللحظة أحببتُ هذا المكان). 
رسم لوري في حياته ألف لوحة وثمانية آلاف تخطيط، وغالبيتها موزعة بين متاحف مختلفة ومجاميع خاصة. وقد عاش سنواته الأخيرة في الريف ورسم مشاهد لبعض الشواطئ والموانئ. ورغم انشغاله دائماً بالرسم، لكنه كان شخصاً غريب الأطوار ويحمل الكثير من الأسرار والتفاصيل المبهمة حتى للناس المقربين منه، والذين كانوا يرون فيه شخصاً غامضاً وماكراً رغمَ حِسَّهُ الفكاهي. كان هذا الفنان يمقت الجوائز، ويعتبره المؤرخون صاحب رقم قياسي في رفض الجوائز والتقييمات. ورثَ لوري عن أبيه ساعات كثيرة جداً، ومن تصرفاته الغريبة إنه كان يضبط هذه الساعات المعلقة في أرجاء المنزل بتوقيتات مختلفة، لأنه لا يريد أن يعرف الوقت، بل أرادَ أن يرسم فقط، وينسى كل شيء وسط شخصياته التي تشبه أعواد الثقاب.