الفكاهة والحياة

ثقافة 2022/04/11
...

 د. عزيز بعزي
لا يقتصر تعريف الفكاهة على معنى واحد مقنع يحدد كل العناصر الواجب توفرها في الفعل أو القول، حتى يمكن وصفه بأنه "فكاهة"، بحكم أن معظم تعريفات الفكاهة غامض وعام. كما أن بعضها يكتفي بالإشارة إلى مظاهرها، أو أشكالها أو فئاتها،  من دون أن يحاول تبيين طبيعتها، أو ماهيتها، لذا نجد أن الكتاب والفلاسفة، والعلماء - ابتداءً بـ "أفلاطون" في محاورته "فيليبوس"، و"أرسطو" ومرورا بـ "هنري برجسون" و"سيغموند فرويد" وغيرهم- لم يتوصلوا إلى تفسير مقنع للفكاهة والضحك، ربما يكون مرد ذلك  شدة تنوع، وتعقد المواقف التي تثير الضحك، بحيث يصعب رده إلى عدد محدود من الأسباب، أو المواقف والعوامل. 
والحق أن محاولة وضع حد لها أمر يشوبه الكثير من الصعوبة، والتعقيد لا لشيء إلا لأنها فن واسع، ممتدة جذورها في كل ألوان الأدب وصور الحياة، لذا فقد نضحك لمنظر نشاهده عند مرورنا في طريق يخالف العقل والمألوف، وغرابته هي ما يضحكنا.
ما يسترعي الانتباه أن جل النظريات التي حاولت رد الضحك إلى سبب واحد بالذات، أو إلى مجموعة معينة من الأسباب تعرضت للكثير من النقد والرفض، مما يكشف في آخر الأمر عن مدى عمق الاختلافات القائمة، ليس فقط حول أسباب ودوافع الضحك، بل وأيضا حول معنى الفكاهة وطبيعتها، والعناصر الواجب توفرها فيها، لدرجة أن ما يراه كاتب، أو مفكر عملا  فكاهيا من الدرجة الأولى، يعده كاتب أو مفكر آخر عملا مأساويا من الدرجة الأولى أيضا، أو على الأقل لا يمت إلى الفكاهة بسبب.
على كل حال، فالفكاهة هي كل باعث على الضحك من فنون القول، كالطرفة أو النادرة أو الملحة أو النكتة، أو الحكاية الموجزة، إذ يسرد فيها الراوي حادثا واقعيا أو متخيلا، فيثير إعجاب السامعين، ويبعث فيهم الجدل والضحك أحيانا. ولا تقتصر الفكاهة على القول فحسب بل تشمل الحركات والأفعال أيضا، فقد نضحك لحركات، أو أفعال يقوم بها أشخاص على مسرح، وأمام المشاهدين من دون أن يتكلموا، أي بلغة إيحائية صامتة تسمى "فكاهة".
فالفكاهة تتخذ اتجاهين على الأقل، الاتجاه الأول يدل على طيبة في النفس، وتلطف في المحادثة، والكلام بهدف الإضحاك والترويح عن النفس.. في حين أن الاتجاه الثاني يشير إلى نوع من التهكم، والتلذذ بذكر العيوب.. أي الاستهزاء، ولا يأتي إلا من عيب، أو تشويه يحاول المستهزئ التركيز عليه، واستغلاله للنيل من الشخص المستهزأ منه.  
وعموما، فبغير الضحك والهزل تكون حياتنا قاسية ومملة، كما تشكل عبئا ثقيلا، لا يقدر الإنسان حتما على احتماله، لذا يظل الضحك، أو الهزل هو المتنفس الذي يخفف من ضغوطها، وينسي آلامها. فالنفس تمل من الدؤوب في الجد، "وترتاح إلى بعض المباح من اللهو"، وهذا ما خلص إليه الجاحظ؛ إذ ذهب إلى أن "الجد إذا دام وطال، تعافه النفس، وتمل منه" لأنه " نصب ومبغضة، وصاحب الجد في بلاء ما كان فيه، والمزاح دليل على حسن الحال، وفراغ البال، وصاحب المزاح في رخاء إلى أن يخرج منه، والمزاح محبة وربما عرضك لألذ منه". 
وقد كان "الجاحظ" أسبق من عني بمراعاة ميول قرائه، وتفنن في إمتاعهم، وإدخال السرور على نفوسهم، إبقاءً على نشاطهم، وإبعادا للملل والسأم عنهم، وكان إذا تخوف ملل القارئ، وسآمة السامع، خرج من جد إلى هزل، ومن حكمة بليغة إلى نادرة ظريفة.
 في هذا السياق، نجد أن "أبو حيان التوحيدي" ختم بعض مجالسه نكتة أو ملحة، في كتابه "الإمتاع والمؤانسة"، "لأن النفس تمل كما أن البدن يكل، وإذا كل طلب الراحة، كذلك النفس إذا ملت طلبت الرَّوح". 
لذا روي عن "خالد بن صفوان" – من أكبر الفصحاء والخطباء المشهورين-  " لا بأس بالمفاكهة تخرج الرجل من حال العبوس"، فكما أن في الفاكهة راحة للجسم فإن الفكاهة راحة للنفس، فالإنسان أصلا  حيوان يَضْحَكُ ويُضْحِكُ معاً، بناء على ما أتاه الله من ذكاء وفطنة، وقدرات عقلية مقارنة مع بقية المخلوقات الحية.
لا يخفى أنَّ الضحك في أحد تجلياته الحياتية، يسعى إلى التعبير عن الأوضاع الاجتماعية، ففي البلدان التي تفتقر إلى الديمقراطية، كثيرا ما لا يجد المواطن متنفسا له في انتقاد ممارسات السلطة، أو سلوك ومواقف أهل السياسة سوى الطرفة أو النادرة، وهنا يصبح الظرف السياسي بمثابة البدل عن ضائع. وهنا يمكن للفكاهة أن تعيننا على التغيير الاجتماعي لبعض القيم والعادات، وما طرأ على أخلاق الناس من تغير، واضطراب وتبدل، وانحلال وفساد بتوجيه النقد اللاذع والساخر لتصويب وتصحيح الأخطاء، ونبذ الفاسد من أجل تثبيت الصالح والنافع.  
وإذا كانت الفكاهة من المظاهر الفنية والأدبية والاجتماعية والحضارية، التي تتميز بها الأمم والشعوب، وبها تقيس درجة ازدهارها، فمتى تبلغ ذروتها؟.
 إنَّ ذلك يحصل في اعتقادي حين يصل التناقض حدا يصعب أو يستحيل معه التوفيق بين الصورة الذهنية والأمر الواقع، وهذا أمر ليس غريبا عنا، فمن النكت الصينية الموضحة لذلك مثلا: أنه أثناء عراك، قضم رجل أنف غريمه، وحين عرض الأمر على القاضي أنكر المتهم ما نسب إليه، وادّعى أنَّ الضحية هو الذي قضم أنف نفسه بأسنانه. وقال القاضي للمتهم: ولكن موضع الأنف أعلى من موضع الفم، فكيف استطاع المجني عليه أن يصل بفمه إلى أنفه، فأجاب المتهم على الفور، لقد وقف على الكرسي".
هنا يمكنك أن تكشف أيها القارئ أسنانك للضحك، فتلك النكتة عالمية الطابع، حيث تتجاوز كل الحدود المكانية والزمانية والثقافية، إذ تجد من يتذوقها، ويضحك لها في كل المجتمعات والثقافات، وفي الحقيقة لا أستطيع أن أحقق في هذا المقام ما يسمى بـ -الكتابة الفكاهية- التي تثير المتعة وروح الدعابة وسبل الترويح والتسلية.. لأنَّ ما قمت به يدخل في باب -الكتابة عن الفكاهة- فإخضاع الفكاهة عموما للدراسة والبحث بشكل علمي- منهجي كفيل بأن يسلب من الفكاهة روحها، وللراغبين على الوقوف عند معظم النوادر والحكايات فليلتجئ إلى بطون كتب الأدب، والتاريخ.. لأنها مدخل من مداخل معرفة نظرة المجتمعات للحياة، وموقفها منها بشكل أو بآخر.