بول ريكور: الذات عينها في قبالة كوجيتو الأنا

ثقافة 2022/04/13
...

 عبد الغفار العطوي
 والمؤلف هذا قد ناهز الـ 750 صفحة، ونقله إلى العربية د- جورج زيناتي، واعترف ريكور فيه، أن هذا المؤلف هو تتويج لفلسفته بأكملها، ومن الطريف أن المؤلف يحمل مشكلة الذات التي طالما احتدمت سجالات ريكور مع الآخرين بصددها، وشغلت فكره الفلسفي لمدة طويلة، بينها في سيرته الذاتية (بعد طول تأمل) وعاش تضاريسها في حياته الممتدة بين الحربين العالميتين، وسجل أساس السجال حول ماهية الذات بين فريق الفلسفة المثالية وفريق الفلسفات الذاتية، ابتدأت من العصور الحديثة، أي من الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596- 1650) إلى أن انتهت لدى البنيويين الفرنسيين بإنكارها، وأعاد ريكور لها الاعتبار قبالة الكوجيتو الديكارتي، وأوضح في مقدمة (الذات عينها كآخر) ما الذات؟ وما يمكن أن تكون في ظل ترسيخها المستقل عن الأنا الذي حاول إخضاعها منذ أن طرح ديكارت وجهة نظره الشكِّيَّة حول معرفة الذات، ومارس منهجه الفلسفي حول ارتباطها بالانطولوجيا، ونقطة انفصالها عن الوجود بوضع (الأنا) في أول الأمر كأداة تفكير قبل إمكانية (الذات) كوجود لا يزيدها إلا غموضاً مما أدى أن تكون (أنا أفكّر) الديكارتيَّة مقدمة سجال في أيِّهما أسبق الوجود أم الفكر؟، ليتحول السجال بين الأنا والذات بعد ذلك عند المنهج التنويري الشكّي عند بعض الفلاسفة لصالح الأول في المفهوم المثالي عند كانط (1724- 1804) مروراً بفيخته (1796-1814) واستقرت عند مثالية هوسرل (1859- 1938) خاصة في كتابه (التأملات الديكارتية) الذي استوحى عنوانه من (تأملات فلسفية) لديكارت، واعتبر هوسرل أن الأنا هو القادر على كشف العالم، وبذلك أوصل الكوجيتو الديكارتي إلى ذروة تفوقه الذي دفع به كانط بأخلاق الواجب إلى أقصى مدى، ولولا نيتشه (1844- 1900) الذي أذله بكتاباته الفلسفية لما تسنى للذات أن تقف على قدميها، سنفهم ما هي الذات التي استمات نيتشه وريكور في الدفاع عنها؟، بعد أن صار كوجيتو الأنا مهيمناً في الفينومينولوجيا التي وضعها هوسرل، كي تقترب الفلسفة من حدود العلم، بالاشتراك مع الهارمنيوطيقا والانطلوجيا التي شكلت معاً نسيج فلسفات المعنى، بعد أن وجدت طريقها في الستينيات عقب بروز طرق تفلسف مختلفة، وفي فرنسا بالذات كانت محاولة تقويض البنية الفكرية القائمة كشرط أولاني لإمكانية البحث في أية صيغة معرفية مستقبلية ممكنة تجسدها فلسفة الفوضى المبدعة التي قام بها الفلاسفة الجدد في فرنسا كانت هناك الفرصة متاحة لريكور كي يبين الاختلاف بين الفلسفتين الذاتية والمثالية، خاصة في ظل رواج مباحث الوجودية والبنيوية والتفكيكية، مع الانتشار الواسع للألسنية التي دعمت تلك المباحث التي وجدت بصورة جلية في الثلاثينيات حتى الخمسينيات في ألمانيا وفرنسا، التي استفاد بول ريكور من منجزاتها في تحقيق تصور النمط الثلاثي للذات، والمعاني المختلفة لها في تفاهمها مع الآخر. 
أ - ما هي صورة الذات في الكتابة الأدبية والفلسفية والفرق المصطلحي والاستعمالي بينهما؟ مخافة أن يلتبس عليَّ، وعلى القارئ غير المتخصص بالفلسفة صورة الذات بين اللغة والأدب والفلسفة!، وكيف كان ريكور متوقعاً حدوث ذلك؟، وأشار نحو ذلك في كتابه الشهير (الزمان والسرد) لما وصف الذات السردية  التي تمثل الذات الفاعلة قبالة الأنا المفكر، مع اختلافهما في أنَّ الأنا يحرِّض على إحلال الكوجيتو في دراسة الفينومينولوجيا (الظاهرات) في العالم خارجه، بينما الذات تمتلك الهوية الفاعلة التي تتعامل مع الأشياء في علاقتها في (الذاته) و(العينه) لهذا يبدو الفرق واضحاً في استعمال (الذات) مصطلحياً واستعمالياً في الأدب (بالأخص في ما يتعلق بالسيرة الذاتية) ففي الدراسة السيرية تتم دراسة مقاربة خطاب السيرة الذاتية بلاغياً، من حيث إبراز النسق الحجاجي المنصهر في ثنايا هذا الخطاب، ولعل ذلك يظهر الفارق بين مصطلح الذات أدبياً، فبناء الذات في الخطاب السيرذاتي تأسس على بعد حجاجي يستثمر استراتيجياً إثارة الأهواء، إذ تندغم صورة الذات (الإيتوس) مع استراتيجية العواطف (الباتوس) والذات هنا ليست نفسها (الذات) في الكتابة الفلسفية، لأن التفكير هو الحاجز بينهما، إذ لعل ريكور قد أعتقد أنَّ الذات في الكتابة السرية هي الذاته (الذات السردية) لأنَّ الذات كهوية هي التي تواجه السؤال، الذي أحكم ديكارت غلقه على الأنا في الكوجيتو (سأتناول من كتاب بول ريكور: مسألة الهوية الذاتية ص67 –ص 118) كي نفهم السعي التفكيري الذي قضاه ريكور في إجلاء المقارنة بين الذات، ما هيتها.
 وإن كانت تواجه الأنا عند وجهات نظر فلاسفة مثل كانط وفيخته وهوسرل، كذلك سبينوزا ( 1632- 1677) أو مالبرانش (1638- 1715) وبين الأنا الديكارتي  والذات عينها، إذ ما هي (الذات عينها) ولم قابلت الأنا العقلاني في الفينومينولوجيا، وكيف اختلفت الذات الفاعلة التي تبنّت هوية الذات لتكون عين الذات بدلاً من الذات؟ (اعترف أني تغاضيت عن التمييز المصطلحي للذات كما أرادها بول ريكور، باستخدام معنى الذات بثلاث لغات اللاتينية والألمانية والفرنسية كما يفعل الفلاسفة الذين درسناهم في الجامعة) لكني سأتناول التقويم الذي ثبّته ريكور في سيرته الذاتية الفكرية، حتى ندرك كيف قارن ريكور بين هوية الذات والأنا الذي مارس به ديكارت جملة التفكير الذي استوعب فكرة الشك المطلق، في البحث العقلاني؟ السيرة الذاتية (بعد طول تأمل) تعكس اللحظات الثلاث للذات التي صنّفها ريكور للذات عبر مراحل تطور فلسفته من الميتافيزيقيا إلى الأخلاق (سنركّز على الأولى) لحظة الذات في مواجهة الأنا، لأنَّ ريكور سيعرض لنوعين من المعنى للذات، الذات كهويَّة والذات كتماهٍ، حينما أخذ في دراسة كوجيتو الأنا من ديكارت إلى هوسرل (في بعد طول تأمّل ما يغني عن الشرح والتفصيل). 
ب- في حدود الفهم يوضّح ريكور أنَّ ديكارت قد استخدم (الأنا أفكر) كفاتحة في وضع الأسبقية للأنا المفكر قبل الذات التفكير، مما أعطى للفلسفة المثالية حججاً عقلانية تمتلك القدرة في إسباغ المعنى على الوجود بأكمله، وعمق ريكور في دراسات هذا الكتاب العشر كيف يتم قياس الفرق بين الأنا المفكر الذي جرَّبه ديكارت في شكِّيته لفهم الذات كأنا (أنا أفكر أنا موجود) وبين ريكور في أن تكون الذاتية والعينية هي الهوية الذاتية للذات، مما يعني أن ريكور أقحم كل الدراسات الفكرية في عصره لدعم فلسفته الذاتية من الألسنية وكشوفات علم النفس عند فرويد (1856- 1939) وعلم الأنثربولوجيا عن ليفي شتراوس (1908- 2009) واستند إلى ضربات نتيشه للكوجيتو، كي يعزز أمثلته في أن الذات العينية هي التي تستطيع إعطاء الغلبة لفهم في المعنى للذات، وإن تقصيت بدوري كيف تكون الذات العينية تقابل كوجيتو الأنا؟ فإنَّ المسألة تحتاج مني إثبات أن الذات التي أريد وصفها ترتبط بالغيرية، قبل أن تكون قادرة على البرهنة على أن هويتها هي الذات عينها.