البراغماتيَّة والقيم الإنسانيَّة

آراء 2022/04/13
...

عطيّة مسوح*
في أية ظروف نشأت فلسفة (البراغماتيزم) الأميركيّة؟ ولماذا نشأت في تلك الدولة الجديدة التي ستصبح في ما بعد زعيمة النظام الرأسماليّ الإمبرياليّ، ومن ثمّ قائدة العالم إلى مرحلة العولمة؟، وما علاقتها بالفلسفات الأووربيّة التي سبقتها وقيمها الإنسانيَّة؟. 
أسئلة يمكن أن تحضر في ذهن كلّ من يقرأ البراغماتيّة، أو يطّلع على تطبيقاتها في مختلف مجالات الحياة، أو من يتابع السياسة الخارجيّة الأميركيّة متابعة تحليليّة تصل إلى ما وراء المواقف الرسميّة المعلنة وتُعنى بالنتائج، وتقيس المُعلن منها وغير المعلن بمقاييس المصالح الاقتصاديّة والسياسيّة للفئات ذات النفوذ في الولايات المتّحدة.
وإذا كانت البراغماتيّة قاعدة للسياسة في كلّ الدول، لأنّ السياسة تعبير عن المصالح، فإنّها في الولايات المتّحدة الأميركيّة فلسفة حياة لا فلسفة سياسة فقط، فهي الموجّه النظريّ للدولة في مختلف المجالات. 
ولعلّ أبرز دليل على ذلك هو أنَّ المدرسة التربويّة والتعليميّة الوحيدة هناك هي المدرسة السلوكيّة المنبثقة من فلسفة البراغماتيزم. وواضع مبادئ السلوكيّة (جون ديوي) هو ثالث مؤسّسي هذه الفلسفة، بعد بيرس وجيمس، كما أنّ مُتابع هذا المذهب التربويّ (واطسون) هو أحد كبار البراغماتيّين أيضاً.
ذكرنا التعليم والتربية مثالاً لسيادة البراغماتيّة في الولايات المتّحدة لأنَّ هذا المجال حاسمُ التأثير في المجالات الأخرى، فمن تخرّجه المدرسة أو الجامعة براغماتيّاً سيتقن تطبيق مبادئ هذه الفلسفة في مجال عمله. ولأنَّ الأمر كذلك فإنَّ الفلسفات والأفكار غير البراغماتيّة هي هشّة وضعيفة الحضور والتأثير في الحياة والسلوك في الولايات المتّحدة، خلافاً لما هو الأمر في الدول الأخرى، ومنها الدول الرأسماليّة الكبيرة في أوروبا.
والسبب في هذا الاختلاف تاريخيّ، متّصل بوظيفة الفلسفة وعلاقتها بالواقع ومصالح طبقات المجتمع وفئاته. 
ففي أوروبا نشأت العلاقات الرأسماليّة نشوءاً طبيعيّاً، وأخذت تنمو وتنضج من خلال صراعها ضدّ خصمين قويّين هما: النظام الاقتصاديّ والسياسيّ الإقطاعيّ، والمؤسّسة الدينيّة (الكنيسة) التي تدعم هذا النظام وتدافع عنه. 
كانت الرأسماليّة الناشئة الناهضة في حاجة إلى فلسفة تعبّر عن تطلّعاتها وتدحض أفكار خصومها، وتبثّ النزعة العقلانيّة في الحياة العامّة بدلاً من النزعة التسليميّة التقليديّة التي كانت ترعاها الحكومات الإقطاعيّة والمؤسّسة الدينيّة. 
لذلك ظهرت الفلسفات العقلانيّة (فلسفات بيكون وديكارت وهوبز وسبينوزا...) ومن ثمّ التنويريّة (لوك ومونتسكيو وفولتير وروسو...). كانت الرأسماليّة الناهضة في حاجة إلى علاقات ثقافيّة وسياسيّة جديدة، ومنظومة قيم مختلفة عمّا هو سائد في النظام الإقطاعيّ. كان هذا سببَ اتّساع حضور النزعة الإنسانيّة في الفلسفة والفكر السياسيّ والاجتماعيّ، وفي الثقافة بعامّة، وكان هو سبب ظهور مفاهيم سياسيّة جديدة في مجال أساليب الحكم وعلاقة الحاكمين بالمحكومين، فبدأت بالتجسّد واقعيّاً فكرة العقد الاجتماعيّ، كما بدأت السياسة تستغني عن دعم المؤسّسة الدينيّة، وبدأ التعليم يتحرّر من هيمنتها... 
كان هذا التطوّر تدرّجيّاً وتراكميّاً، وشمل جميع مناحي الحياة ومنها الثقافة التي تشكّل الفلسفة قاعدتها. 
وبرغم أنّ التطوّر كان سريعاً بالمقارنة مع التطوّر في العصور السابقة، فإنَّ المجتمعات الأوروبيّة كانت تهضم كلّ خطوة من خطواته، لتنتقل إلى خطوة أخرى. 
لم يجرِ هذا كلّه في المجتمع الأميركيّ، فالأوروبيّون الذين استوطنوا العالم الجديد وفرضوا سيطرتهم على الأرض البكر، وبدؤوا يستغلّون ثرواتها ويستقدمون العبيد للعمل فيها وفي المنشآت الرأسماليّة الصغيرة التي يقيمونها، لم يواجهوا العقبات التي واجهتها الرأسماليّة الناشئة في أوروبا، فلم يكن النظام الإقطاعيّ قائماً وراسخ الجذور في الأراضي الأميركيّة الشاسعة، ولم تكن هناك مؤسّسة دينيّة تدعم خصوم العلاقات الرأسماليّة التي لم تنشأ نشوءاً تراكميّاً ارتقائيّاً كما في أوروبا، بل بُنيت بناء في ظروف مريحة، تنغّصها قليلاً مقاومة ضعيفة من سكان الأرض الأصليّين الذين لا سلاح لديهم ولا جيش. 
فالقيم السياسيّة والاجتماعيّة التي رسّختها الفلسفة العقلانيّة والفكر التنويريّ في أوروبا في عصر النهضة، تلبية لحاجة الرأسماليّة في معركتها مع التسلّط الإقطاعيّ والكنَسيّ، لم تظهر في أميركا ولم تُنقل إليها بسبب عدم الحاجة. 
أمّا حاجة الرأسماليّة الأميركيّة فكانت إلى فلسفة تخدم بناء صرحها الاقتصاديّ والسياسيّ، فلسفة عمليّة تُشتقّ قيمها من الحاجة إلى زجّ الناس في معمعة العمل وخضمّ المنفعة التي يحصد الرأسماليّون  ثمارها.
إذاً، كما فرضت حاجة الرأسماليّة الأوروبيّة فلسفة العقل وأفكار التنوير، فرضت حاجة الرأسماليّة الأميركيّة الفلسفة البراغماتيّة التي لا تأبه بالمضمون القيميّ للفلسفات الأوروبيّة، ولا تكترث إلّا لتحقيق الربح والمنفعة. 
وهذا ما أكّده تشارلز بيرس مبتكر (البراغماتيّة) عام 1878 بقوله إنّ الفكرة التي تؤدّي إلى العمل هي الفكرة الصالحة، ونجد ووليم جيمس يقول: إنّ العمل الذي تنتجه الفكرة هو الدليل على صوابها، ليصل جون ديوي إلى القول إنّ العقل ينبغي أن يكون أداة للحياة لا أداة للمعرفة. وعلى هذه الفكرة الأخيرة تقوم فلسفة التعليم الأميركيّة. 
قد يرى كثيرون أنّ الأفكار المذكورة أدّت إلى تقدّم علميّ هائل، ونحن لا ننكر ذلك، لكنّنا نتساءل عن القيم الإنسانيّة التي تشكّل الضابط الحقيقيّ للتعامل مع نتائج العلم ووضعها في مصلحة الإنسانيّة، كما نضيء على السبب العميق للفرق بين مستوى احترام القيم الإنسانيّة في المجتمعات الأوروبيّة والمجتمع الأميركيّ. 
                                     *كاتب وباحث من سورية