مطاردة

ثقافة 2022/04/13
...

 إبراهيم محمد عامر*
 
علعلى المقهى كنت أجلس.. سألني النادل:
ـ هل أحضر شيئا؟
قلت له:
ـ يكون أفضل لو انتظرتني.. لي صديق سيجيء الآن..
تركني.. أخذ نظري يجول.. كانت الليلة رائعة.. وغدا عام جديد.. بالقرب منِّي شاب وفتاة قريبان للغاية من بعضهما، يتناجيان.. أحسَّا بالحرج لما لاحظاني أنظر إليهما.. أخفضت بصري..
ـ أأنت هنا؟!
لقد جاء.. جلس وهو يلهث في إجهاد.. 
قلت:
ـ تبدو متعبا!
تلفت حوله وهو يجيب:
ـ كنت أجري طوال تلك الليلة.. 
سألته:
ـ لماذا؟!
ـ كانوا يطاردوني.. 
ـ من؟!
لم يجب.. سألني:
ـ أعطني سيجارة..
ناولته واحدة.. أشعلها وأخذ ينفث دخانها.. كان يتلفت حوله ووراءه..
عاودت سؤالي: 
ـ من كان خلفك؟!
ـ رجلان.. 
ـ لماذا؟!
ـ لأنّي هجوت الكبار جميعهم..
قلت:
ـ لا أفهم شيئا..
سحب نفسا طويلا من السيجارة ونفثه.. ثم تناول كوب الماء الموضوع على الطاولة وشربه..
هدأ قليلا ثم قال:
ـ تعلم بأنّي شاعر.. ألقي الشعر أينما ذهبت.. وهذا المساء كنت في ندوة.. وألقيت قصيدة جريئة نوعا ما.. هجوتُ فيها كلَّ شيء.. الكبار والصغار.. 
قلت في أعجاب:
ـ يا لشجاعتك!
ابتسم.. راقَ الأمر له وقال:
ـ تحدثت فيها عن كل شيء.. الظلم.. الفساد.. العنف الموجه.. القيود.. الأسوار.. كل شيء يا صديقي.. 
ـ وماذا حدث؟!
ضحك وهو يقول:
ـ انقطعت الكهرباء عن الميكروفون صدفة أثناء إكمالي للقصيدة.. صدفة بالطبع.. أنت تعلم مثل هذه الأمور.. 
ضحكت أنا الآخر.. وكان ما زال يتلفت خلفه..
ـ وماذا حدث؟! أكمل.. 
ـ ناداني منظم الندوة.. وهو شاعر كبير في السن غير معروف إلا للنخبة.. همس في أذني أني قد تسببت في إحراج بالغ له.. قلت له: سيدي إنّي مجرد شاعر، والكلمات لا تؤثر مهما علت حدتها.. رفض حججي وطلب منّي أن أغادر في هدوء.. وإلا.. 
ـ وهل غادرت؟!
ـ نعم.. 
أتى النادل.. قلت:
ـ أريد شاي وأحضر له قهوة.. 
فأردف صديقي:
ـ وشيشة..
مضي النادل.. وأكمل قصته:
ـ خرجت.. كان الجو غير مريحا.. لشيء ما كان صدري منقبضا.. وجدت أمام الباب رجلين غليظي الملامح.. كانا يدخنان.. لمحاني فتعلّق بصرهما بي.. ثم اتّجها نحوي..
وتوقف كأنّما يريد أن يشوقني لحكايته أكثر.. فقلت: 
ـ وماذا حدث؟!
ابتسم وهو يقول: 
ـ جريت..
ـ جريت؟!
ـ نعم..
ـ في الشارع أمام الناس؟!
ـ في الشوارع.. لقد كانا يطاردانني في إصرار.. جريت من شارع إلى شارع حتى انقطع نفسي.. 
ـ يا لك من مسكين!
عاد النادل.. تناول منه الشيشة، ووضع طرفها بين شفتيه.. وكان يبدو سعيدا..
سألته:
ـ وأين تركتهما؟!
هزَّ كتفيه وقال:
ـ لا أعرف.. لقد أخذت أجري آخر الأمر من دون أن التفت ورائي.. ولكن الغالب أنهما في الميدان الآن ما زالا.. 
كان متعبا وإن حاول أن يظهر عكس ذلك..
وكان نحيلا للغاية.. أسمر شديد السمرة.. ويتفاخر دوما بأصله الصعيدي.. 
قلت في حذر: 
ـ وهل تأكّدت أنّهما أفلتاك؟!
ـ نعم.. تركتهما عند الميدان منذ ساعة.. ركبت عربة لحسن الحظ أنّها طارت بي فور أن وضعت بها قدميي.. 
ابتسمت وأنا أقول:
ـ هذا قدر الشعراء يا صديقي.. 
راق الأمر له وقال في فخر:
ـ لا يهم يا صديقي طالما قلت ما أؤمن به..
ثم تنفّس طويلا وقال:
ـ أنا جائعٌ للغاية يا أخي..
وفي نبرة لم تخفَ عليَّ ما بها من حزن قال:
ـ لقد أرهقاني كثيرا يا صديقي.. لقد أرهقاني..
* قاص مصري