الشاعرُ الطُفيلي

ثقافة 2022/04/16
...

 علي محمود خضيّر
 
كم من النصوص الشعريّة التي نقرؤها اليوم هي استنساخ غير بريء لنصوص أخرى أصليّة؟ إنني هنا لا أتحدّثُ عن التناص، ولا عن التأثّر، وكلاهما مُبرران، بل أتحدّثُ عن شعراء تعوّدوا الاتّكاء على تجارب غيرهم داخل الموجة الشعريّة الواحدة أو خارجها. شعراء نفعيون يمتلكون القدرة على امتصاص رحيق تجربة شعرية وتقديمها مرة ثانية مع بعض الزينة والإضافات. ستمرُّ القصيدة على قارئ اعتيادي، وقد تمرُّ على ناقد كسول غير متابع ولا يقرأ بجديّة، لكنها لن تمرّ على صاحب القصيدة الأصليّة، ولا القارئ النوعيّ المُدرَبُ على اكتشاف المزيف في تجربة الكتابة. ليس هؤلاء بشعراء ظل، أبداً، على العكس، قد تراهم في طليعة كل جيل، وفي واجهة الضوء الإعلامي و(النقدي!).
إنَّ قراءة جادّة لأجيال الشعر العراقيّ منذ الستينيات إلى اليوم يمكنها أن تؤشّر وتفرز، بوضوح، التجارب المركزية في كل جيل، والتجارب التي عاشت متطفلِةً عليها، أو على تجارب مركزيّة في أجيال أخرى. في كل مرحلة شعريّة عراقيّة هناك أصواتٌ أساسيّة وأخرى محض أصداء، ردّات فعل، تنويع على لحن أساسيّ يسم المرحلة بميسمه. لكن علينا الاعتراف أن التجارب (الطفيلية) في الشعر العراقيّ تمتاز غالباً بالذكاء.
الشاعرُ النفعي ذكي لأنه قادر على تمثّل الأنموذج الشعريّ الفريد، واستيعابه، ثم إعادة انتاجه مع رتوش تضيّع بصمات الجريمة. أمر ليس باليسير. إنّه حرفيٌّ ماهرٌ، يأخذ القالب ويفهم الطريقة ويكررها، مع علامة جودة مزيفة تقول لكَ: «احذر التقليد!». تماماً كما يفعل حُذّاق الأسواق الصينية في تقليد بضائع العلامات المسجلة. 
ذكيٌّ لأنَّه يخاتل، ولأنَّ مخاتلته تنطلي على العوام. هو بالمحصلة صانع؟ أم متصنع؟، قل ما شئت، لكنه ليس في حكم من تتفجّر الصنعةُ من يديه بداهةً وطبيعة أصيلة. إنّه كاتب شعر وليس شاعراً.
ستشعرُ وأنت تقرأُ قصيدة صاحبنا أنّها تبدو جيدة حقاً، وكل شيءٍ على ما يرام، لكن شعوراً يناديك أن ثمة خطباً. وأن ما تقرؤه الآن سبق وأن قرأَته بطريقة ما.
هل تريدون صفات أخرى؟ حسناً. إنّه دائماً صاحب الخطوة الثانية. لن تجد صاحبنا مبادراً على الإطلاق: في فكرة جريئة لكتاب، أو مشروع شعري مبتكر، أو تجريب في الشكل أو اللغة. إنَّه ردّة فعل. صدى. ينتظر، يراقب السوق، ثم يستثمر في أفضل بضاعة ناجحة. لا يغامر شاعرنا الذكي كثيراً، لأنَّ موهبته تتركّز في ارتياد السبل الممهَّدة لا اجتراحها. 
 (منهجيّة) الشاعر الطفيلي هذه لا تضيره في شيء، فمن يُسعفه ذكاؤه في اختراق البنية الشعرية والقاموس الشعري المتداول لن يخذله حين يُسوّق بضاعته على ماكنة الإعلام الثقافي وشبكة العلاقات النقديّة والأكاديميّة مستخدماً ذات الملَكة بالغة الذكاء. وهذا ما يُفسّر توهّج أسماء شعريَّة في تاريخنا الأدبي نالت شهرة راسخة على حقب متتالية لكنَّها سرعان ما تلاشت ما إن توارى صاحبها عن مسرح الحياة أو تغيّرت الظروف التي رفعته.
 قد يكون الشاعرُ ذكيَّاً، وقد يكسبُ بهذا الذكاء جولاتٍ عديدة، ليس من بينها أن يكون أصيلاً.
إنَّ الفرادة الحقّة تجيء من فرادة النص وأصالته. هل ثمّة استثناءات شوّشت على هذه الحقيقة واحتلت مقعداً لا تستحقه في أول الصف؟، نعم، لكن السؤال الأهم: إلى متى؟ الزمن والقارئ الفطن كفيلان بالإجابة.
ضالتي، ذلك القارئ، الذي يستطيعُ، بحدسه الحقيقي، اكتشاف الجانب المزيف في الكاتب.
نادرٌ ذلك القارئ ندرة التجارب الأصيلة في الشعر. أكادُ أقول إنَّ قراءة الشعر موهبة تعادل كتابته. وهي الكفيلة بتشخيص الشاعر العائل من سواه الطفيل، وهي أيضاً مَن تُفرّق بين الشعراء وبين كتّاب الشعر!.