رجلٌ طاعنٌ في الأمل

ثقافة 2022/04/16
...

  طالب عبد العزيز
 
في الطريق التي غالباً ما تأخذني إلى النهر، الى الضفة التي لا تشرق الشمسُ عليها دائما، هناك، حيث يركنُ البَّحارةُ مراكبَهم القديمة، بانتظار هزيمة الحديد، في معركته الأخيرة مع الماء، على الجرف المنخور بالموج وخيبات القراصنة المحليين، أصلحتُ عُطلَ عينيَّ، لأبصرَ أكثرَ مما أتوقّع، في الخرائط، ما بقيَ منها وما اندثر، خرائطِ الليل والنَّهار، أسماء النجوم، ومواسم الرياح، وهدهدة الأقمار.. كان عامل الاستوديو، عند الجسر، قد منحني شريطاً أسودَ معتماً، عليه رسوم المدن التي علقت ببدن مركب أبيه، المغروس في الطين هذا، منذ لا يعلم من السنوات، وراح يحدثني، فكنت أسمع ارتطام الماء بالماء مرةً، وبالقلوب والأكفِّ والأقدام مرةً أخرى.. ياه، شقَّ حالهُ عليَّ وهو يشير الى جهات الأرض الأربع، وهو يغالب موج روحه، ليحدثني عن امرأة، انحشرت في سريره ذات يوم، لكنه، ما زال يعلقَ أحلامها في قمرة مركبه.  
يتحقق في المرآة أكثر ذلك الغموضُ الذي تتهرّبُ منه، قلتُ: وتتوارى في الوجوه الغربةُ، التي تجهل أسبابها.. ففي النوافذ المغلقة، هناك ما يزدحم من الغواية والشوق، وعلى الأسرة، التي لا أحدَ لها ستنطفئُ مع الوسائد والأزرار المشغولة باليد شمعةُ الانتظار، وآلامُ الرقبةِ، والرغبة في البكاء. ومثل نسرٍ أفلتته المقاديرُ.. تتراجع اللغةُ الموجِبة، المحفوفة بالمعاني والدلالات، التي انتظرتها طويلاً، وتنكفئُ في المعاجم، حتى لكأنَّها تخلد في الأبد العميق، الأيامُ التي لا تجدُ نولاً لنسجها ثانيةً الآن.. لكن، وكما لو أنّها قارورة عطر قديمة ستضوع رائحةُ الحبِّ في الفؤادِ المحجوب.. لهذه ولتلك أيضاً سيظلُّ، يترددُّ في بندولِ الساعاتِ الدمعُ، الذي لن تجد لخسارته عناقاً ومناديل.
قال لي: لقد ذهبوا في التماثيل، انغلقوا في الثقوب، وترددوا في الكمنجات، وناموا في الأزاميل، وتواروا في المصاعد، وتشيؤوا في كلِّ ما هو جامدٍ وميّتٍ كلُّ الذين أحببتهم، وتمزّقت الى الأبد قصاصاتُ الورق، وأرقامُ الهواتف، ولوحاتُ تعريف الأزقَّة، أكلت شطآنُ الملح البعيدة أسماءَهم، واستعمر النسيانُ قلوبهم، فلا تسمِّ النهاراتِ لي، ولا الصباحات.. سعادتي ألا تبزغَ الشمسُ بين موجتين.  
ليس من الحكمة أنْ نعيش مرّتين يا صديقي، حياة واحدة تكفي، وجرحٌ عميق في القلب، لا أكثر قمينٌ بقيامة مقبرة.. ألا تراهم يضعون شريطا أسود واحداً على صورتك في غرفة الخطّار؟ إذن لقد علم الجميع بنزولك من المركب. أنظر، لكم تبدو وسيماً، برباط الفوتوشوب، صنعه ابنك في الذكرى الثانية لنزولك. أحدٌ ما يفكّر بغرفتك لابنه الصغير، ياه، كم عليه أنْ ينفق من المال لطلاء جدرانها؟؛ لذا، تعال أحدثكَ عن دهشة الشيخ في المغتسل، وهو يملأ بالماء ثقوب روحك، وهو يبحث تحت إبطيك عن محّارة أخيرة، علقتْ، وتأبى، عن آخر ورقة سقطت في الخريف الماضي على رأسك، عن آخر نحلة لاحقتها وهي تغادر زهرة عبّاد الشمس، وعن آخر المنتظر في محطة القطار، وعن آخر امرأة لم تتسقْ عباءتُها على رأسها في عيادة الطبيب، عن طعم قطعة الشوكولاتة الأولى بفم ابنك، عن الجملة الأخيرة في حوار لعاشقين انتظرا طويلاً لقاءَهما هذا، عن رجلٍ طاعنٍ في الأمل مثلي، مازال جالساً، يشاهد فيلماً شاهده عشرات المرات.