معرفةُ المكان

ثقافة 2022/04/16
...

 محمد صابر عبيد
يتحدى المكان رغبة الإنسان في المعرفة للوصول إلى حالة الإدراك الكامل والشامل والحيوي والأصيل للمكان، بحيث تتحقق المعرفة المطلوبة للمكان بوصفها غاية أساسيّة ومقصداً محورياً، وبما أنّ المكان لا يمنح نفسه بسهولة على هذا الصعيد فهو يحرّض رغبة الإنسان وذكاءه وذوقه ومرجعيّته وفلسفته وحاجته لمزيدٍ من الغوص في جوهر المكان بحثاً عن المعرفة، وهي معرفة شديدة التعقيد والالتباس لأنها معرفة معنوية لا يمكن رصد تجليّاتها بيسر وسهولة، لما لها من امتدادات ومرجعيّات وصلات وطبقات وظلال وزوايا ودلالات متوهجة يصعب التأكد منها في وقت قصير من النظر والرصد والمعاينة والمعالجة.
 
تحدّد طبيعةُ الصلة بالمكان حيويّةَ المعرفة المطلوب بلوغها من حيث القوة والضعف، والقرب والبعد، الثراء والفقر، فللمعرفة أدوات وصفات وخصائص وسمات وآليّات وسبل وطرائق وحالات وقيم لا حصر لها؛ ولا يمكن لها أن تكون في حالاتها المثلى من غير سندٍ مكانيّ شديد القوّة والبأس والحضور والتجلّي، بوسعه أن يعطي لهذه العناصر المعرفيّة كلّها فرصتها في الحركة والعمل والإنتاج.
تكون حيويّةُ المعرفة في طبقتها القويّة قادرةً على الإفادة القصوى من المكان بحيث تستثمر إمكاناته إلى الحدّ الأعلى، ويُسخّر المكان فيها نحو إتاحة ما ينطوي عليه من فُرص ظاهرة ومضمَرة لكي تكون المعرفة في أفضل حالاتها، بينما لا يتاح هذا حين تكون حيويّة المعرفة ضعيفة وبحاجة إلى طاقات مكانيّة أكبر لا يمنحها المكان عادةً، والأمر نفسه ينطبق على ثنائيّة القرب والبعد أو الغنى والفقر؛ إذ بوسع قرب حيويّة المعرفة من المكان التأثير البالغ القادر على بلوغ أعلى درجات الاستثمار والإفادة، في حين يستحيل أن يحصل هذا في حالة البعد حيث تكون الصور مشوّشة وغير تامّة الوضوح بما لا يناسب تأثيراً أكيداً.
تتمثّل الهوية المركزيّة للمكان بحراك المعنى والنشاط المستمرّ والممارسة الحيّة على طريق بلورة أفق دلاليّ متجوهر يعي قوّة الهُويّة ويعبّر عن قيمتها، وذلك حين يبلغ الانتماء أعلى طبقة من طبقات العلاقة بين المكان والمعرفة حيث يكوّن هذا الانتماء منطق الرؤية واتجاهها، فمنطق الرؤية لا بدّ أن يقوم على منهجيّة علميّة قادرة على الاحتواء والفهم والحجاج على النحو الذي يؤهّله لابتكار الاتجاه الخاص به، ويمثّل الاتجاه طبيعة المقصد الذي تذهب الرؤية نحوه لأجل تحفيز سبل المعرفة وطرائقها المختلفة على تمثّل المكان وتكريس وجوده المعرفيّ، إذ لا يمكن للمكان أن يغذّي المعرفة ولا يمكن للمعرفة أن تحتوي المكان من دون جدل أصيل بين الطرَفَين، ينهض على حساسيّة الانتماء والابتكار والحيازة والتمثيل للوصول بالرؤية إلى أرفع درجات القدرة على الفعل والعمل والإنتاج.
ينطوي المكان في معنى جوهريّ من معانيه المعرفيّة على مفهوم «الحيازة» في ترتيب علاقته مع الموجودات، فالمكان يحوز على ما يحويه ويمنحه قوّة مكانيّة كثيفة تتدخّل في وجدانه وتستعمر مناطق أساسيّة فيه، ويستجيب المحتوى أيّاً كان نوعه وجنسه ولونه وكتلته وحساسيته لفاعليّة هذا الاستعمار المكانيّ ويبتهج به ويدافع عن قيمة الانتماء فيه، ومن هنا –ربّما- جاءت مقولة «مسقط الرأس» إذ يحتفي بها الناس كثيراً في أمكنة متنوّعة ومتعدّدة في هذا العالم الفسيح، وهي تعني فيما تعنيه حالة الانتماء الجذريّ لمكان ولادة الإنسان وما يترتّب على ذلك من معطيات تتعلّق بالمعرفة المكانيّة ذات السمة الوجدانيّة.
تتدخّل في إنتاج معرفة المكان أو المعنى المعرفيّ للمكان جملة عوامل ومعطيات وقيم وأفكار، لعلّ من أبرزها «هُويّة المكان» إذ لا مكان بلا هُويّة تكرّس الوجه الحقيقيّ الواضح والعمليّ للمكان في الوجود، فالأشياء كلّها تبحث أولاً عن هُويّةٍ ما تجعل وجودها في الحياة ممكناً وذا فاعليّةٍ وحضورٍ وتمكّنٍ تجعلها قابلة للتداول والبحث والصيرورة.
يأتي ما يمكن أن نصطلح عليه «المحيط المكانيّ» كي يرسم خريطة متجلّية للمكان تؤسّس له حدوداً تعمّق وجوده على الأرض، وتضاعف من طاقته المعرفيّة الوجوديّة في السبيل نحو تمثيل الرؤية المكانيّة الخاصّة بكلّ مكان، ومن ثمّ السعي نحو تثبيت هُويّة المكان في تفاعل صميميّ ومنتِج بين الهويّة والمحيط، بما يفتح السبيل أمام «الفعل المكانيّ» لممارسة دوره في الميدان المعرفيّ لبلوغ طبقة من طبقات الفضاء يكون المكانُ فيها موطنَ المعرفة وجذرَها ومرجعها، حين ينجح في توكيد صورة «المعنى المعرفيّ المكانيّ» على النحو الذي يقود إلى حالة أنموذجيّة من التفاعل بين هذه العوامل والمعطيات المشتركة في إنشاء معرفيّة المكان.
تتدخّل في تكوين الهويّة المعرفيّة للمكان قضايا أخرى مثل «الخبرة البيئية» التي تسلّح المكان بكفاءة ترسّخ تفاصيل المحتوى، وتسهم في صياغة الرؤية المكانيّة بما يستجيب للخبرة ويوسّع من حجم المحتوى ونوعه وقيمته الماديّة والمعنويّة، لأنّ الصراع الجوهريّ في مقاربة معرفيّة المكان تتلخّص في تصوير الحراك المعرفيّ الباطنيّ بين المكانيّة واللا مكانيّة، فاللا مكان هو الأصل في هذه المعادلة حيث يخوض صراعاً عنيفاً مع أطراف مختلفة لأجل الانتقال من اللا مكان إلى المكان، وكلّما تخلّص المكان من زوائده اللا مكانيّة يصير بوسعه السير نحو الجوهر المعرفيّ للمكان بصلابة معرفيّة تبرّر الحضور المكانيّ وتدعم صورته المطلوبة.