الحياةُ من نافذة قطار

ثقافة 2022/04/17
...

  كاظم اللايذ              
ظلَّ القطار ينودُ به طوال الليل، راكضاً به في الفلوات، نافثاً دخانه في سماءٍ ملبَّدة بالنجوم، باعثاً من حديدهِ المصطخّبِ عويلاً كأنَّه العذاب... حتى داهمه النعاس، وغفا..  بعدها، لا يدري كم مرةً توقف هذا الأفعوانُ العجوز، ليقايضَ ركّاباً بركابٍ، وليلاً بليل. ثم يعود ليسحبَ جسده من جديد.  
 
في الصباح... كان هذا المسافرُ - بوعثاء سفرهِ -  في (دائرة الأمن).. 
يطلب الضابطُ من معاونهِ إحضار (الإضبارة)،  بينما ينشغل بالتفرّس في الشاب الهزيل الذي لم يبلغ العشرين: في قميصهِ، وبنطالِه، وحذائِه... فتتلبّسه عاطفةٌ مهادنة لا نعدم وجودها عند أكثر الناس سطوةً وقسوةً وفضاضة.
قال له الضابط: أتريد أن تصير معلّـماً يا ولد؟
فحرّك الشابُ رأسَـــه بالإيجاب 
قال له: إذاً، ما أنت والسياسة يا ولد؟.. اتركْها، وانتبهْ لخبزتك. ولا تدعْ الشيوعيين يضحكون عليك.. 
                                
     ****   
  قطارُ الجنوب، الصاعد إلى بغداد: قطار "محمود عبدالوهاب"، يُقلّهُ طالباً الى دراسته الجامعية. قطارُ (البريكان)، ينقلُ سجينَهُ "عيسى بن أزرق" في طريقهِ إلى الأشغال الشاقة. قطارُ المعلّم محمد خضير، يحملهُ كلّ ليلةِ سبتٍ إلى مدرستهِ في إحدى  قرى الفرات، وينزل به ليلةَ كلّ جمعةٍ إلى أهليه في البصرة. 
في قرية "العارضيات".. المدرسةُ ليست بعيدةً عن محطة القطار، الطلاب بدشاديشهم يأتونها من خلف الحقول، بوجوه شاحبة لا تعرف الابتسام، سالكين الدروب الترابيَّة التي صنعتْها الحوافرُ والأقدام، يحملون كتبهم المخلّعة الأغلفة في أكياس من القماش. 
 في الليل حيث تزدحم السماء بآلاف النجوم، وحيث لا يُسمع إلّا نباحُ الكلاب ونداءاتُ الطيور، وحديث الظلام الى الظلام، ينفرد المعلّم مع فانوسه وقراطيسه...
    هناك، ومن خلف غابة القصب طلعتْ عليه (البطات الثلاث) لتحلقَ على حقول العارضيات ثم تتوجه شمالاً الى بغداد، لتفوز هناك بـ (جائزة القصّة 
القصيرة).  
                                    
    ****
  من القطارات الراكضة بركابها في الفيافي ليل نهار، أخذَ محمد خضير قوانينَه الخاصة في كتابة القصص، استلهمها وهو يراقبُ في رحلاته من نافذة القطار انبثاقةَ الفجر، وكيف تظهر تضاريس الأرض تدريجياً، وكيف تظهر رويداً رويداً تفاصيل الحياة.. ثم تنقذفُ مسرعةً الى الوراء. 
من القطارات بعرباتها الكابية الحزينة ومحطاتها المنزرعة في العراء.. من المتسولين والباعة من الجنود الملتحقين بمعسكراتهم أو العائدين الى قراهم، من زوّار الأضرحة والقرويات المتلفّعات بالسواد، والبدو الذين يصعدون الى القطار بصُررِهم، ثم لا يلبثون أنْ ينقذفوا في محطاتٍ أخرى منعزلة في البراري ويغيبوا كالأشباح... من تلافيف هذه العوالم المتنقلة التي عاشرَها هذا المسافرُ المزمن سبع سنين، رائحاً غاديــــــــــــــاً  انبثقــــــت (المملكة السوداء).. لم يتشكّل هذا الكيان الذي اسمه محمد خضير، بسهولة. لم يكن مجرّد كاتب مُنحَ موهبة الكتابة،  فالموهبة وحدها لا تكفي. 
إنَّ (محمد خضير) هو نتاج  لجهاد عظيم، وعمل متواصل دؤوب استغرق عقوداً سبعةً بمجالدة تفوق مجالدة الزاهدين. القراءة عنده ليست للتسلية وتزجية الوقت، إنَّما هي قضيةٌ وكشفٌ ومعرفة وعبادة وولع باختراق المستور، يعينه ذكاء فطري، وحافظةٌ وقّادة، وصبرٌ جميل.