تمرين قصصي يفصل جيلين متناقضين

ثقافة 2022/04/17
...

 د. سلمان كاصد 
ماذا نعني بالتمرين القصصي؟، هل يشكل التمرين القصصي ظاهرة سردية؟ أم هو نواة غير مكتملة لنص سردي من المتوقع اكتماله؟، هل يعاد تشكيل التمرين القصصي بالشغف ذاته الذي تم الاشتغال على نواته في بدء تكوين الفكرة؟
هل التمرين القصصي هو (اسكتش) تصوري لعمل متوقع؟ أم هو نص يمكن تسميته بالنصيص بما يوازي مصطلح (العلوان) الذي وصفه محمود عبد الوهاب في كتابه (ثريا النص) عن عبد الفتاح كليطو عن جاك دريدا. أو هو بنية تسول كونه بنية غير مكتملة، تحتاج إلى عناصر جديدة وهنا نسأل:
 
هل التمرين القصصي بنية ناقصة كونها تكثيف لعناصر غير مكتملة؟، أم هو بنية تفتقر لعناصر مفقودة أصلا، كما هي حال العنوان (بنية افتقار).. (مادامت تعاريف البنية تلتقي عند توصيفها بأنّها مجموعة عناصر غير مهيمنة "ثانوية" إلا عنصر واحد تسيَّد على مجمل العناصر الأخرى فسمّيت البنية باسمه كونه مهيمنا) بحسب مفاهيم ياكوبسن.
حسنا... التمرين القصصي يوازي الأنموذج المصغر للعمل المتوقع اكتماله في النحت (ماكيت)، أي أنه الفكرة الممهورة بالكلمات والمتحوّلة من التجريد كونها فكرةً، إلى الواقع كونها نصّا أوليّا.
 
دعوة المتلقي
ويرى محمد خضير أنَّ (الغاية من كتابة التمرين/ السكيتش، دعوة المتلقي لاستئناف السرد فيه من أي مرحلة وصل فيها الحدث ذروته، فاكتماله مشروط باستجابة قارئ/ منتج ثان للنص).
ويضيف (بما يعني أنه تخطيط يكتمل بمحاولة طرفٍ ثانٍ مشارك لإكماله أو تداوله في محاولات انتاج متعددة لكي يستمر النص في توالده القرائي غير الناجز).
وكل ذلك يقودنا للقول: إن السارد يتحول بعد قراءة التمرين إلى قارئ جديد بدلالة الحذف والاستبدال والتعديل الذي سيمارسه على النص الأصل بما يعني أن النص سيخلق من جديد على يد قارئ/ منشئ جديد.
وعليه يقول محمد خضير: (السارد هو نفسه قارئ نصه لأنه يطرحه كتجربة للقراءة، لذلك فإنَّ السكيتش هو أقرب الأشكال السردية (باعتباره جنسا أدبيا مستقلا عن القصة القصيرة) إلى نظرية استجابة القارئ.
وهذا يقودنا للقول: إنَّ السارد سيتلبس شخصية أكثر من قارئ يشارك في استقباله وإعادة تشكيله او بعض من أحداثه.
أي أننا أمام نواة أولى في السكيتش يمكن إعادة صياغتها بمجملها أو جزء منها وفي الغالب - كما يبدو - إعادة هيكلة الجزء لا الكل لأننا لو افترضنا إعادة هيكلة كل النواة لأصبحنا من جديد أمام إنتاج نص مغاير وهذا ما يراد بالتمرين.
السارد في التمرين القصصي لا يتوقف فعله السردي فهو يظل حيا بصوته الصامت، عبر أي تخيل يحصل لمتلقين جدد، ولهذا تتعدد رؤى التمرين الأول الذي مع ذلك يظل محافظا على نواته، روحه الأولى بالرغم من التعدد الافتراضي الجديد.
ولهذا لا بدَّ من القول: إنها فكرة مغايرة لنظرية البعد الواحد لجنس الرواية المغلقة أو المكتملة بذاتها.
وهنا يقول خضير (إنها أقرب الأشكال لما حاولت نظريات القراءة الحديثة إثباته، خاصة وأن القراءة تعايش النص في لحظة ولادته، ولا تأتي متأخرة عنه، لاسيما أن الكاتب يعتبره جنسا سرديا غير ملحق بالقصة القصيرة الاعتيادية أو النوع الآخر المسمى القصة القصيرة جدا، فهو بحد ذاته (حاجز) بين الأشكال والأنواع السردية المجاورة.
 
الحاجز أنموذجا
ولتحليل تمرين قصصي مهم كتبه القاص الكبير محمد خضير، والذي أطلق عليه (الحاجز)، نحاول أن نفكك هذا التمرين إلى عناصره الأولية، لكي نفهم ماذا يمكن أن يشتغل عليه محمد خضير في ما بعد لخلق نص مكتمل متوقع يقارب التمرين إلى حد معقول بوصفه نواته الأولى.
يستعين القاص محمد خضير بآليَّة مجاورة لتمرينه الكتابي، بـ (صورة) تصبح عبر القراءة (لوحة) شارحة (مدلولا) يمكن من خلالها تقريب التمرين إلى المتلقي، على افتراض أن التمرين فكرة غير مكتملة قصصيا، ومن ثم يمكن تعويض فهم اللا مكتمل بالنص بالاستعانة بالصورة، والأمر متروك للمتلقي في اتباع إما التجريد التوصيفي كما جاء في النص أو الواقعي كما جاء في الصورة، ولهذا يمكن تقسيم المتلقين إلى صنفين وهما:
1  -  متلقٍ متخيل لما ليس مرئيا. 
2 - متلقٍ واقعي مرئي يستعين بالصورة. 
          
زقاق بغدادي
هنا يبني محمد خضير تمرينه على (صورة) في زقاق بغدادي، يوحي بتجاور عالمين، لجيلين، جيل أوشك على الانتهاء بدلالة غلق الممر التاريخي للمستقبل كما في النص وجيل آخر لا يعرف 
شيئا عن بداياته كونه عابثا، تهيمن عليه اللامبالاة.         
يتدخل السارد (خارج النص) ليدعونا كي نذهب باتجاه التمرين الافتراضي.
ينشئ القاص عالمين متعاقبين هما: ما قبل وما بعد الحاجز (الماضي، الحاضر) ولا وجود للمستقبل، حيث يمثل كل منهما الجيلين اللذين افترضهما السارد في الاستهلال.
الأول - يوازي جولة رجل في شوارع بغداد (القديمة) في زمنٍ ماضٍ، حيث يقدم - بانحياز - ذلك العالم وكأنه أكثر انسجاما، مألوفا يزخر بمجموعة من المسرَّات المبهجة والمكوّنة من:
أولا - عالم ثابت 
ظلال شارع الرشيد وتمثال الرصافي وصابغ الأحذية الجالس والباص ذو الطابقين والمكتبات في السراي والمتحف الملكي ومقهى البرازيلية والكعك الدهني كما وردت الإشارة 
ذاتها عند فؤاد التكرلي في الرجع البعيد (كعك السيد) وشرفة خشبيَّة لفندق في الرشيد ثم ينتهي ب.
ثانيا- عالم متحرك
ذيل شعر فتاة مستعجلة ووجه رجل هرم ثم 
يعود ثانية إلى توصيف الثابت (قلم باركر 51) في معرض زجاجي.
 
العين الراصدة
يقارن محمد خضير هذا العالم بطريقته في التقاط الأشياء بأسلوب المخرج (فيلليني) وكأنَّه يفترض أنَّ عينه الراصدة ما هي إلّا تعويض عن عين كاميرة (فيلليني) بما يعني أنَّ مهمة الرائي (السارد) أن يعيش صورة الكشف الأولى المبهرة للزمن الغابر، ومن أجل أن يخلق عالما موازيا لجيل آخر أشار له في استهلال التمرين.
لم يذهب محمد خضير مذهبا اعتباطيا، بل استخدم كل خبرته كي لا يقع بالمماثلة أو المشابهة التضادية، حيث ذهب للصورة التي نقرأ فيها عن جيلين مع كلبين، والصورتان في صورة واحدة يبدو فيها:
الأول - يُربِّي الكلب واقعا.
الثاني- يتأمّل كلبا افتراضيا (بالموبايل) يمكن أن يختفي بسرعة في لحظة انطفاء شبكة الهاتف المحمول الذي يحمل صورة الكلب الافتراضي.
في هذه الصورة يتعمّق الإحساس بالزمن وبقسوة حياة الجيل الجديد (الثاني) عندما يفقد في لحظة واحدة خارجة عن زمن السرد اللذّة، لذّة التأمّل والاستمتاع بالمرئي الذي أغرقته عوالم التكنولوجيا فضاع فيها بما يوازي اختفاء صورة الكلب فجأة.
يذهب السارد ثانيَّةً عائدا إلى عالم المطعم المجاور لتمثال الرصافي القديم (يظل السارد مشدودا للماضي) لينبّه نفسه بوجوب التذكّر بأنَّ العالم (عالم النص) الآن يتقابل فيه المخضرمون والمبتدئون من القصاصين الرائين. 
وكما يقول محمد خضير ملخصا هذا التقابل الغائي - من الغاية-  في التمرين: (إنَّه الحاجز بين "أجيال" القراءة في واقع متغيِّر على مستوى الحكاية 
ونظرياتها).
وهنا نقول: إنَّ التمرين القصصي يمتلك أجزاء غير مكتملة عاشت في زمنٍ ماضٍ ولن تعيش في زمن سيأتي (المستقبل) كون العالم الجديد مصابا بعطب في زمن الكورونا، وهي خصيصة تشاؤمية واضحة تقترب من مفهوم لوسيان كولدمان بأنَّ القصَّ (تاريخ بحث متدهور - غير مجدٍ- عن قيم أصيلة في مجتمع أو عالم متدهور).
تلك هي خصائص التمرين القصصي الذي من المتوقع أن يكون نصّا قصصيّا مكتملا، ولكن كيف؟ وما هو المتغيّر؟ وما هو الاستبدالي فيه؟.