قفزات اليقين

ثقافة 2022/04/19
...

 جيري لوفيمينا
  ترجمة: علي رحمن
 
في الفصل الافتتاحي من كتاب «المدينة المحفزة» الذي يحمل عنوان  «شطب الموضوع»، يكتب ريتشارد هوغو «يمكن القول إن القصيدة تحتوي موضوعين، الموضوع الأولي أو المحفز، الذي يبدأ أو «يسبب» القصيدة المراد كتابتها، والموضوع الحقيقي أو المتولد، الذي تخبر عنه القصيدة أو تعنيه، ويضيف على ذلك: «يتحتم على الموضوع الأولي تحفيز الخيال وكذلك القصيدة».
وكذلك عليه أن يثير خيال الشاعر والقارئ معا، من خلال اللغة والصورة والإيقاع والأسلوب.
كثيرا ما أخبر طلابي، لا تخبروني بما تريدون الكتابة عنه - فقد تكون الموضوعات مثل القيود.
أكتبوا  القصة حين توقفكم الشرطة بسبب السرعة، وقد تكون القصة مضحكة أو مخيفة أو حزينة، وقد تقفزون بعد ذلك إلى الاستياء المتوقّع لإهانات الشرطة أو تهديدهم العنيف (أو عدم وجوده، ومن ثم التأكيد على مفهوم الكف العليا)، أو ملل رجال شرطة المدينة الصغيرة، ولا شيء من ذلك سيثير الدهشة لأن هذه هي الموضوعات المتأصلة في القصة. 
مثل هذه القصائد لا تثير حماس الكاتب في النهاية، خاصة إذا كانت هذه القصص معروفة سابقًا، وليست تقدم سوى القليل من المفاجأة أو عدم الاكتشاف للقارئ. 
نومئ برؤوسنا، ونلعن رجال الشرطة في أنفسنا. 
وهذا ليس جديدًا للكاتب، ولا حتى للقارئ.
قد يجعل الشاعر هذه القصائد مُضحكة، وقد يؤديها بشكل جيد، لكنّها لن تتجاوز نفسها أبدا. لماذا؟ لأن القصيدة لا تقفز من موضوعها المثير، لا تقفز إلى منطقة الخيال الإبداعي، تلك المنطقة اللاواعية التي يأتي منها يانع الشعر.
 في كتاب «قفزة الشعر»، يصف روبرت بلاي القفزة الشعريَّة بأنَّها «قفزة من الوعي إلى اللاوعي والعودة مرة أخرى»، ويشير إلى أن «المتعة الحقيقية للشعر هي تجربة هذه القفزة داخل القصيدة».
أود القول إنّها أكثر من أن تكون متعة القصيدة الحقيقية، بل هي الجوهر الحقيقي لأفضل قصائدنا. تأمل كيف أن إحدى الكلمات التي تصف الشاعر باللاتينية، هي “vates” والتي تعني أيضًا „العرّاف“ أو „الرائي“، وكذلك مفردة  “kavi”، في العديد من اللغات الهنديَّة.
الشاعر هو شخص ينظر إلى ما هو أبعد من موضوع التحفيز، إلى أواصر العالم، ومن هنا تأتي أهمية الاستعارة.
لذلك أخبر طلابي أن يتجاهلوا ما يريدون الكتابة عنه ويكتبوا بدلاً من ذلك عن الأشياء التي تثير انتباههم ليكتشفوا، من خلال الكتابة، لماذا أثارتهم. 
وغالباً ما تكون هذه الصور مجازية بطبيعتها.
وما يزال يسألني البعض مرارًا عن كيفية القفز؟
ليس ثمة إجابة سهلة لهذا الاستفسار، ولكن السؤال نفسه يقودنا إلى الاستعارة:
فالقفزة هذه في النهاية في حدِّ ذاتها مجازيَّة.
القفز فعلٌ من أعمال الطفولة، بخلاف اللوردات في „اثنا عشر يومًا من أيام الميلاد“ وبعض نجوم المسار، 
نادرا ما يقفز البالغون، لكن الأطفال - يقفزون.
يقفزون فوق البرك ومن أعلى غرف القشِّ،
يقفزون فوق بعضهم البعض ويقفزون في ثقوب السباحة. ويتعلّمون تنظيم المسافة الممكنة بقفزة. 
من منا لم يحاول القفز فوق بركة، للوصول فقط إلى المنتصف، ورشّ أنفسنا ومن حولنا بالماء
 من خلال القفز فقط نعرف مدى القفزة الممكنة.
من خلال القفز فقط نكتشف الممكن وغير الممكن.
فقط من خلال الممارسة يمكننا توسيع النطاق.
وهكذا، عند الكتابة، علينا العودة إلى شعور اللعب، إلى الشعور بالإمكانية، إلى الشعور بالاستكشاف. علينا أن نستمتع بما تمنحنا اللغة بما يتجاوز تصوراتنا الواعية من رغبتنا المحفّزة في الكتابة عن موضوع معين. 
ربما لهذا السبب يعود بلاي إلى أحد آبائه الشعريين: „لكي تكتب بشكل جيد، عليك أن تصبح مثل الأطفال الصغار“. أعلن بليك، الذي يناقش „التجربة“، أن الخوف من قفزة إلى اللاوعي هو في الحقيقة أن تكون في حال من „التجريب“.
وبالنظر للرغبة في النشر، والرغبة في امتهان الشعر: نجد ذلك هو الذي يجعل الشعر شاغلا للبالغين، ومن ثم قد نشعر أحيانا بالحاجة إلى جعله آمنا. أعني بذلك ملاءمة الأجواء المدرسية، وإرضاء بعض الجمهور، والتحرك خطيا وليس أفقيا. نحن نتجنب الارتباطات التي قد تبدو وكأنها امتداد للخطوة الواضحة والسهلة بدلا من القفزة.
يقول ستيفن دن: قصيدة الحب الجيدة لا بدَّ من وجود „لكن“ فيها، والتي تمثل أحد أنواع القفزات.
مارك دوتي في قصيدته „هذا هو منزلك الآن“ يقول: 
...وثُمَّ (أسمعُ رفيقتي ماري 
ضاحكةً فوقَ كتفي، بقولها
في قصائدكَ في كلِّ أوانٍ تحضر „ثُمَّ“، 
أو ذا تكون قصيدةٌ من دون „ثُمَّ“).
„ثُمَّ“ و „لكن“ وسائل سهلة لتأسيس القفزة. فقد يكون أي شيء كل ما يلي „ثم“ حيث يسمح بتغيير جذري في سير القصيدة، في حين „لكن“ تسمح لنا بمضاعفة الخطوات السابقة، والقفز بعيدا عن المتبنى الخاص، وتجنّب الثبات في تفكيرنا.
تعني القفزة أحيانًا إبعاد السياق السردي، وترك الأمر على عاتق اللغة والسيناريو. على سبيل المثال، بدأتُ مسودة قصيدة الليلة الماضية بهذا السطر: 
„مبكرًا التَفّت الشمس، وأشرعت رحلتها 
الطويلة نحو الجنوب“. 
إنه سطر أعجبني.
وأكملتُ بهذا السطر،
 „وهكذا أطلقَ التقويمُ علنًا الصيفَ“، 
والذي تمَّ شطبه على الفور تقريبا لأنّه 
1. يشرح الاستعارة، ومن ثم  
2. هذا واضح. 
لذلك بدأت كتابة بعض الأسطر الثانية المحتملة، بعضها لم يكتمل على الإطلاق: 
„وفي النهايةِ بعد الظلامِ...“
كلا، سرديّ جدًا 
„الأسفلتُ يطلقُ البخارَ طوال الظهيرةِ“
     هذا مجرد تكرار لفكرة أن الجو حار.
„الآن بعد انتظاري حتى هبوط الظلام“
         غير مُتقن 
„الآن أمشي في شوارع المدينة وتحلم كلُّ كلاب الحيّ“
    قريب 
مفردة „الآن“ قد تكون هي القفزة، المسافةُ التي نشأت من „مبكرًا“ التي افتتحت المسودة. 
„ومن ثم، إبعاد وفرة السرد أوصلتني إلى سطر آخر:
„الآن كلُّ كلابِ الحيِّ تحلمُ برِقّةِ أسماك الفيليه ومسحِ البطنِ“
هذه قفزة في السطر الثاني. ليس ثمة سبب ونتيجة، لا يوجد ترابط، فقط إمكانية في الفجوة بين السطرين. 
هنا القصيدة فُتحَت لي كمنطقة اكتشاف ككاتب، وآمل أن يكون ذلك للقارئ كذلك.
ذات مرة كانت إحدى الطالبات تكتب قصيدة عن معرض المقاطعة، وكانت القصيدة تحتوي كل الأشياء التي نعرفها في معرض المقاطعة: ألعاب منتصف الطريق، حلوى القطن، منزل ممتع، شخوص الكرنفالات. 
حيث اتجهت القصيدة إلى جميع الأماكن المتوقعة وكانت هذه هي مشكلتها الرئيسية. كانت القصيدة حية، لغتها، في بعض الأحيان، ممتعة.
وعلى عكس السبب نفسه الذي يجعلنا نذهب إلى معرض المقاطعة (لنخرجَ من أيامنا المتواضعة)، فشلت القصيدة في المفاجأة أو البهجة. 
أخيرًا، اقترحت عليها البدء بسرد جميع الأشياء في معرض المقاطعة: الابتعاد عن قاعة المرايا وربما كشك التذاكر - مع دلالاته على الشراء „الهروب“،
أو ديربي الهدم، أو المراهقين الذين يخرجون في عربة Ferris Wheel، أو الآباء في المنزل الذين لم يرغبوا في الحد من أسلوب الطفل، أو أرض المعارض بعد أسبوع عندما يختفي كل شيء.
وقت القفز، مكان القفز، ومسابقة قفز الضفادع في معرض المقاطعة، وكيف لم أفز على الرغم من „رنين“ ضفدعي الضخم الذي أعطي لي عندما كنت في الثامنة، عطلة صيفية في شمال ولاية نيويورك. جاء ضفدعي في المركز الثاني، ثم حررته.
بالطبع لست مضطرا لإخباركم بأن الجزء الأخير ليس حقيقيا. هو توضيح فقط للطريقة التي يمكن أن تؤدي بها اللغة والزمان والمكان قفزة معرفية وخيالية. وأفضل القفزات محفوفة بالمخاطر ولا مفر منها.
يذكرنا مترو الأنفاق البريطاني „بمراعاة الفجوة“، التي يتوسلون إلينا كي نكون سالمين من خلالها، وأن نخطو فوق المساحة بين منصة المحطة وعربة القطار. سواء كنا قراءً أو كتابًا، فإنَّ القصائد تتوسّل إلينا أن نغتنم بعض الفرص.
القفزة هي قفزة يقين بقدر ما هي قفزة بين أنماط التفكير المعرفي، بين التجربة الواعية واللاواعية، الشحنة الكهروكيميائية الصغيرة لفكرة تتصاعد عبر الفضاء بين المحور العصبي والتشعّبات آلاف المرات. القفزة، في النهاية، هي كيفيَّة التفكير.