الجنس المقدَّس

ثقافة 2022/04/19
...

  ناجح المعموري
الخلق الكوني في ديانات أخرى كان نتيجة لزواج مقدس بين إله السماء والأرض/ الأم، هذه الأسطورة الكوسموغونية ذات الانتشار الواسع، هي، المثالية التي تقوم بدور أنموذج للسلوك البشري. ولذلك يعد الزواج محاكاة للزواج المقدس الكوني، لكن ثمة جانبا آخر من الضروري إبرازه، وهو البنية الكونية لطقس الزواج والسلوك الجنسي الذي يسلكه الإنسان، بالنسبة للإنسان غير الديني في المجتمعات الحديثة، هذا البعد الكوني، والقدسي في الوقت نفسه، من المعاشرة الزوجيَّة، من الصعب عليه أن يفهمه. 
لكن يجب ألا ننسى أن العالم بالنسبة للإنسان الديني في المجتمعات القديمة، يتبدى محملاً بالمعاني الملغزة أحياناً، لكن الأساطير جاهزة لمساعدة الإنسان على حل رموزها. وسوف نرى أن الخبرة البشرية في مجموعها قابلة لأن تكون مماثلة للحياة الكونية، ومن ثم قابلة لأن تتقدّس، لأن الكون هو أعلى ما خلقته الآلهة.
والدعارة الطقسيَّة التي تجري لمنفعة المواسم لها هي أيضا أنموذجها الإلهي: الزواج بين الإله المخصب للأرض/ الأم. الخصوبة يحرضها جنون جنسي لا حدود له.. والموسم الجديد يساوي خلقاً جديداً. والدعارة المنغلقة إنما هي انكفاء في الليل الكوني، إلى حالة ما قبل تشكل الأشكال في المياه، من أجل ضمان ولادة جديدة كلية للحياة، ومن ثم خصوبة الأرض ووفرة المحاصيل.
كما أنَّ الانبعاث الأرضي يشترط حصول الاتصال، حتى تتبدى وظائف الأرض بواسطة النبات أو الشجر، مثلما تتبدى استعدادات الأم المستمرة/ والمتجددة على الاتصال وفي وقت الربيع حصراً. 
وينطوي الظهور الانبعاثي/ الربيعي للنبات على صعود الإله الشاب/ القتيل، الذي مات بعد النضج (الحصاد/ القطاف/ أو السقوط قبل الأوان)، وهذا الصعود هو معاودة الإله الشاب لماجله الفكري/ الحيوي، فلا بد من معاودة ثانية إلى الحياة، وهذا ما حصل لعدد من الآلهة في الشرق الأدنى القديم مثل مروخ/ بعل/ أوزيريس/ ديونيسيس/ آتيس/ أدونيس/ يوسف/ يسوع. 
ويستدعي هذا الصعود/ الانبعاث إدامة للعلاقة السابقة/ الأزليَّة بين الأم وابنها، وكأنَّها تمارس احتفالاً معلناً عن المعاودة الانبعاثية للألوهة الشابة، ولتقاليد الأم المكرّسة بالتبادل الاتصالي سنويّاً، وفي عيد صعود الإلوهة الشابة.
الإشارة الواضحة التي انطوت عليها ــ مثلاً ــ الأسطورة السومرية ــ ننورتا وننخرساك ــ على الوفرة والخصوبة في الأرض/ والحياة هي ضمناً إشارة لاكتمال الأم الكبرى السومرية وحيازتها على عناصرها الدوام والاتصال الإلهي رمزياً.
أنتجت الحقول القمح الوفير 
وحملت الكروم والبساتين أثمارها 
وكرَّست الغلة في الصوامع والتلال 
لقد أزال الإله الحزن من البلاد. 
إنَّ الوفرة التي أشارت إليها الأسطورة السومرية هي دلالة على ديمومة الحياة واستمرارها من خلال التجدد، مثلما هي تعبير عن الصلاح والطاقة الكامنين في جسد الآلهة الأم الكبرى، لأنَّها ــ حتماً ــ متماهيَّة مع أنموذجها البدئي الأول/ الأرض، حتى تكاد تكون صورة مكررة عنها. كما أن الأرض هي في شكل الأرض/ الأم، المعطاء التي تغدق النعم على الإنسان ونراها في شكل «ملكة الآلهة» و «سيدة الجبال»، غير أن الأرض أيضا مصدر المياه، واهبة الحياة، في الأنهر والقنوات والآبار ــ وهي المياه التي تنبثق عن بحر جوفي عظيم، فبصفتها منبع هذه المياه، كانت ترى في شكل مذكر، في شكل «أن - كي» أي «سيد الأرض» أو أصلاً «السيد ــ الأرض» فكان الثالث أو الرابع في ترتيب الآلهة. هذان الشكلان للأرض ننخرساك وانكي. وهذه هي أخطر العناصر الكونية وأسماها درجة، ولها التعود الأكبر في كل ما في الوجود.
وصار الخلق ميزة جوهرية للإلهة الأم في كل الحضارات، لأنه يعني فعلاً أساسياً، يشف عن عظمة الإلوهة وجوهرها ــ كما قال فراس السواح ــ وكان على الدوام مهمة يضطلع بها أعظم الآلهة شأناً، فينتشل الكون في لجة العماء، ويضع النظام من رحم هيولي، ويضرب تنين الفوضى ليضع من أوصاله عالماً معقولاً ينم في كل جزء من أجزائه عن عظمة القدرة التي صاغته. 
ظهرت الأرض على أنها الأم الأولى التي انبثق منها كل شيء حي من بشر وحيوان ونبات، وعلى أنها الأنموذج الأمومي الأول الذي نتج عنه في ما بعد كل تكرار لفعل الأمومة. فانجاب الأطفال وتوالد النباتات أمور هي في جوهرها تقليد لفعل الإنجاب الأولي الذي قامت به الأم الكبرى وتكرار له. وخصوبة النساء ليست إلّا قبساً من الخصوبة الكونيّة المتمثلة في الأرض/ الأم.. وهذه الآلهة مخصبة ذاتياً دونما حاجة لقوة خارجيَّة. وفي هذا المجتمع الأمومي أسلم الرجل قيادة للمرأة، لا لتفوقها الجسدي بل لتقدير أصيل وعميق لخصائصها الإنسانية وقواها الروحيَّة وقدراتها الخالقة وإيقاع جسدها المتوافق مع إيقاع الطبيعة.. وكانت بشفافية روحها أقدر على التوسّط بين عالم البشر والآلهة، فكانت الكاهنة الأولى والعرّافة الساحرة الأولى، بهذه الأسلحة غير الفتاكة، مضى الجنس الأضعف قوة بدنيّة فتبوأ عرش الجماعة دينياً/ وسياسياً/ واجتماعياً، وأمام هذه الأسلحة اسلمت الجماعة قيادتها للأمهات.  وتتواجد المرأة صوفياً مع الأرض، وتتبدى الولادة، على الصعيد البشري، شكلاً آخر من الخصوبة الأرضية. جميع الخيرات الدينية التي لها صلة بالخصوبة والولادة ذات بنية كونية. إن قدسية المرأة متوقفة على قداسة الأرض. وللخصوبة الأنثوية أنموذج كوني هو أنموذج الأرض/ الأم/ الأم الكونية. وفي بعض الديانات يعتقدون أنَّ الأرض/ الأم قادرة على الحبل بمفردها، من دون مساعدة من زوج، وإننا لنجد آثاراً من قبل هذه الأفكار القديمة في أساطير الولادة العذرية المنسوبة إلى إلهات البحر الأبيض المتوسط، كما قال العالم المعروف ميرسيا الياد. وما يؤكد عدم اهتمام القبائل الرعوية بإنتاج الأسطورة ما قاله غونكل، الأساطير قصص عن الآلهة وهي تتميز عن الحكايات البطولية يكون شخصيات الأخيرة من البشر، لكن لا بد من توسيع هذا التعريف أن شئنا تطبيقه على العهد القديم، لأن الميثولوجيا بعامة تفترض تعدد الآلهة وهي من ثم لم تلق شروطاً مؤاتية لازدهارها بين بني اسرائيل.. ولم ينشغلوا طويلاً بإنشاء قصص. ومن الممكن القول إن التاريخ وليس الأسطورة احتل الموقع المركزي في تفكيرهم.
أسطورة اللفاح تفسير - كما قلنا- لمرحلة الموّات في الطبيعة وهي جواب عن أسئلة المخيال الجمعي الذي صاغ نظاماً ثقافياً ودينياً خاصاً بالتجدد والخصب وبعلاقة السماء بالأرض وسقوط المطر وقوة الشمس، هذه كلها وحدات أساسية مكونة للمعطى ومساهمة به، ومقدم لنا بشكل جيد عبر الأسطورة والشعائر المزاولة معها، لأن عدداً من الطقوس ينطوي على سحريات مصاحبة، لها دور بإنضاج المعتقد الخاص بالانبات والإنضاج. 
ينطوي النص التوراتي للفاح على وجهين أساسيين أولهما الايديولوجي الخاضع للقراءة الشكيَّة حسب مصطلح بور ريكور والخاص بصعود النظام البطريركي وهيمنة نظامه الثقافي الذي أنتج شخصية يوسف عبر توزيع الأدوار بين الأب يعقوب وراؤبين من جهة وبين ليئة وراحيل من جهة أخرى، يوسف الذي تميز عن أخوته بوظائف كثيرة وقدم خدمات تاريخية جليلة لمصر وأنقذها من الجوع والفوضى.
أما الوجه الثاني فإنه التصور الحلمي/ اليونوبي للقبائل الرعوية التي عاشت على هامش الحضارة الكنعانية، لكنها حازت على ثقافتها ودينها من ذاك المحيط، الحلم الذي ظل مراوداً لهم بالدخول إلى جنة كنعان أو اجتياحها، وهذا ما مهّدت له الأسطورة التي انطوت على تاريخ واضح. وتفترض الظاهرة الدينية مستويات مختلفة في التناول والدراسة، أولها التمييز فيها بين ما هو قدسي متعالٍ، وما يحيل على ترجماتها الدنيوية التاريخية. فهي تختزن تصوراً للكون، للطبيعة والإنسان، وتقترح نمطاً من الاعتقاد يرمي بالمؤمن في مناخ ذهني ووجداني يدفع به للانخراط في حركية دائمة للتماهي بين ذاته وموضوع إيمانه. يستدعي على ذلك أسلوباً في التعامل والسلوك يمنح للعلاقات داخل الجماعة مضموناً ومعنى وبقدر ما تندرج الظاهرة الدينية ضمن مجال الاعتقاد والمقدس والمتعالي، تجد نفسها، في كل الأزمنة والظروف، معرضة للسؤال والفهم.