العداء للغرب وتشويه مفاهيم الحضارة الجديدة

آراء 2022/04/19
...

  ماهر الشمري
 
لقد تمت عملية انسجام ومحاكاة واضحة بين المؤسسات الدينيَّة في العالم عن طريق تحميل المفاهيم والمصطلحات الكبرى للحضارة الجديدة القائمة، كمفهوم الحرية والحداثة والعقلانية والديمقراطية والعلمانية والفردية، من خلال ربط هذه المفاهيم والمصطلحات بمصاديق ضيقة مجتزأة ثم تصديرها وبثها في المجتمعات بهذه الحمولات التي ينفر منها المجتمع الديني بحسب بنيته المؤدلجة من الأساس بهذه الايديولوجية والثقافة الدينية، كما ذكرنا ذلك في القسم الأول من هذا المقال.
فالحرية التي تعني إعطاء الأفراد حقهم في حرية الاختيار بالقبول والرفض ضمن الضوابط القانونية والعرفية التي تتلاءم مع المجتمع بما لا يُتعدى بها على حقوق وحريات الآخرين، يفسّرها لنا رجل الدين والمؤسسة الدينية على أنها تعني الخلاعة والابتذال ومضاجعة أي امرأة حتى من تحرم عليه دينياً، فيختزلون ذلك المفهوم (الحرية) والحق العظيم للإنسان بهذه المصاديق (الجنسية) المبتذلة  اجتماعيا ودينيا، وما ينبذه ذلك المجتمع بحسب بنيته الثقافية العامة.
ومصطلح العلمانية الذي تتبناه هذه الدول الغربية التي فررنا إليها بأدياننا ومقدّساتنا لم يكن يعني في يوم من الأيام محاربة الدين عقيدة وطقوساً وممارسة (إذا لم تكن عدوانية مخلّة بالأمن والنظام)، فلماذا صُدِّرت إلى تلك المجتمعات على أن العلمانية كائن مرعب يقتفي أثر الدين والمتديّن والإله ليقضي عليهم بمنتهى الخبث والشيطنة؟!
 وهكذا دواليك تأتي المفاهيم العظيمة التي كوّنت دولا ومجتمعات سليمة وقوية ومنتجة الى عقل المتدين بشكل أما سطحي او مبتذل او يتعارض مع المشروع الإلهي في آخر 
الزمان.
دعونا نتفق أولا على أن أوروبا وحدها من دفعت الفاتورة الباهظة لهذه الحداثة والحرية والعقلانية والحضارة الجديدة التي تأسست على هذه المفاهيم، فلا أميركا ولا الشرق ولا غيرهم من استطاع أن ينقلب على النظام  القيصري او الملكي او الكنسي او ما يمكن أن نسميه بالنظام القديم، فمن كوبر نيكوس إلى جردانو برونو المقتول بالتعذيب الكنسي إلى  گاليليو گاليلي ثم ديكارت وايمانويل كانت وجون لوك وجورج باركلي وفولتير وروسو ومنتسيكيو وهوبز وآخرين كثر قدموا عصارة أفكارهم في سبيل العقل والحرية، وكل ما يمكن أن ينتشل هذا العالم من قبضة حرّاس المعبد ودكتاتورية الحاكم 
المستبد.
 فلو صحَّ تعريف الحضارة الغربية على أنّها مجموع الأفكار والنظريات العقلية الإنسانية في القانون والسياسة والاجتماع والآداب والمنهج العلمي، وما نتج عن كل ذلك من تحول في مظهر العالم الجديد بعد عصور الظلام التي مرت على أوروبا والعالم بأسره، فنحن بهذا التعريف المختزل المتواضع لا يمكن أن نقصد بمصطلح (الحضارة الغربيَّة) كل الغرب بأفراده، وبما صدر عن الساسة والقادة الغربيين من حروب وإجرام ومجازر واستعمار وتجارة عبيد وعنصرية، كما لا يجوز لنا اتهام كل الغرب وحضارته بتلك الجرائم 
والموبقات.
فكما أن المفكرين والعلماء والمنظرين الأوائل لهذه الحضارة العظيمة كانوا أفرادا ارتقت الإنسانية والبشرية بهم، كان هنالك زعماء ومجرمون وطغاة أوقعوا العالم في أتون حروب وكوارث إنسانية لا يمكن للمرء إلا إدانتها وتجريمها كجرائم هتلر وموسوليني أو الاستعمار الأوروبي في الشرق وأفريقيا الشمالية وغيرها.
 واحترازاً عن تساؤلٍ قد ينقدح في ذهن القارئ من ملاحظة الفرق الواضح بين نظرة المجتمع المتديّن المسيحي في الغرب وبين المجتمع الديني في الدول الإسلاميَّة لا حضارة الغربية وعلمانيتها وحداثتها نوضح أهم الأسباب التي شكلت هذا التمييز والتفاوت:- 
أولاً: 
 وجود مشتركات بين الكنيسة وأتباعها وبين الفكر العلماني وأتباعه في المجتمع الغربي، من وحدة التاريخ والقوميات والعرق واللغة والثقافة العامة.
ثانياً: 
اشتراك بعض رجال الكنيسة في عملية التنوير في أوروبا ومشاركة الكنيسة في إنشاء أولى الجامعات الأوروبية، جعلها تحاول التكيّف مع الحضارة من دون العداء الفج لها.
 ثالثاً:
نجاح التجربة العلمانية في أوروبا بعد عزل السلطة الكنسيَّة عن السياسة العامة للدولة، جعل الكنيسة غير قادرة على المقاومة وتجييش الأتباع ضد المنجزات للدولة الحديثة وعلمانيتها، مع ثبوت واقع جديد لم يحاول القضاء على الكنيسة بقدر ما حيَّدها وعزلها عن السلطة الدنيويَّة هناك.
هذه الأسباب جعلت المجتمع الأوروبي نفسه بمتدينيه يرتقي من ناحية الوعي ومنح الثقة للدولة الحديثة والكف عن معاداتها والانخراط في تشييدها وتحصينها وحمايتها بدلا عن ذلك العداء.  
وهذا كله لم يكن متاحا للحضارة الغربية والحداثة والعلمانية في واقع الدول العربية أو الإسلامية، فلا مشتركات تاريخية أو عرقية أو قومية أو لغوية أو ثقافية بين الغرب الأوروبي وبين الشرق الديني والإسلامي بشكل خاص، ولا مشاركة لرجل الدين في تلك الحضارة ولا في صياغة مفاهيمها الأساسيَّة من الحرية والعقلانية والفردية والعلمانية والديمقراطية، فلم يكن بمقدور هذه المجتمعات أن تتمثل الحضارة الأوروبية ومفاهيمها بشكل طبيعي وسلس، وكان هذا كله مدعاة للمؤسسة الدينية والإسلام السياسي بوجه خاص لوضع اللبنات الأساسية الأولى في تشويه تلك المفاهيم والحضارة الغربية في عقل المجتمع الديني الإسلامي الشرقي، وتصوير كل ذلك على أنه هو العدو الذي يجب أن يحذر منه ويستعد لمقاومته ومحاربته على أي حال.
لقد تمَّ بالفعل تسطيح العقل وتجهيل المجتمع وأخذ يستشعر التناقضات بين ما يراه من النتاج الغربي الحضاري الذي لا يمكنه إنكاره بل يستفيد منه كل آن ولحظة، وبين ما عليه تبنيه من معاداة الغرب ومفاهيم حضارته الجديدة بحسب التلقين والتشكيل الديني والسياسي الديني الذي تشكّلت عقليته وشخصيته 
عليه. 
فهذا الغرب المتطور في كل المجالات والذي يعالجه وينبّئه عن الفضاء والمجرات وعن كيفية بناء المدن والطرقات ونظم التعليم والمنهج العلمي وطرق إنتاجه وعن دولة القانون والمؤسسات، هو نفسه الغرب الكافر العلماني الذي يريد أن يقضي على الدين وعلى الإسلام 
والمسلمين.
 ومما زاد في الطين بلَّة وسريان مفعول التجهيل والتسطيح العقلي لدى المجتمع المتديّن الشرقي، هي الحركة الاستعمارية التي قامت من الغرب على الشرق من الهند والدول العربية إلى أفريقيا الشمالية كلها، والجرائم البشعة التي قام بها قادة وسياسيون غربيون، حيث قامت الماكنة الإعلامية الشرقية، بإلقاء تبعات كل ذلك على كل الغرب وحضارته، وعلى تلك المفاهيم الرائعة واتهامها.
فأصبح هتلر والاستعمار كما صوّره الإسلام السياسي والمؤسسة الدينية، هم الممثل الأوحد أو الأبرز للحضارة الجديدة وللحرية وللعلمانية وغيرها من مفاهيم.