تراثُ المتصوّفة مرآةُ عصره

ثقافة 2022/04/19
...

 د. عبد الجبار الرفاعي
(2)
 نشأ التصوف بوصفه محاولة لاسترداد الدين لوظيفته بوصفه نظاما لإنتاج معنىً روحي وأخلاقي وجمالي للحياة، وليسترد الدينُ المعنى الذي تتطلبه حياة الإنسان، غير أن ذلك المعنى ضاع من أكثر المتصوفة. في بدايته كان التصوّف بصيرة ملهمة، لكن انطفأ ضوؤها لاحقا، عندما ضيّع المتصوفة دينَ المعنى في زوايا العزلة والهروب من المجتمع، والخضوع وانقياد المريد الأعمى لشيخه.
 
   بعضُ أنماط التربية الروحية في التصوّف تتنكّرُ للطبيعة الإنسانية، فتسرف في ترويضِ الجسد، باعتمادِ أشكالٍ من الارتياض يكون الجسدُ فيها ضحيةَ الجوعِ والسهرِ والبكاءِ والعزلةِ والصمتِ، وممارسةِ بعض التمارين القاسية العنيفة لترويض الإنسان. هذه الأساليبُ من أهمّ أركان تربية السالك لدى أغلب الطرق الصوفية. لا يطيقُ الإنسانُ التقشّفَ الشديد والتنازلَ عن معظم الاحتياجات الأساسية للجسد، ولا يتحمل الإكراهَ القسري لطبيعته على ما لا تُطيقُه. التنكرُ لهذه الاحتياجات أحدُ منزلقات التربية لدى كثيرٍ من المتصوّفة والرهبان في كلِّ الأديان، وقد كانت ومازالت سببًا لانشطار شخصية بعض هؤلاء واضطراب سلوكهم. الارتياضُ العنيف الذي يتنكر لاحتياجات الإنسان الجسدية والنفسية والعاطفية والعقلية، طالما فرضَ على المتصوّف الانسحابَ من المجتمع والانطواءَ على الذات، وأحيانًا أنتج أمراضًا نفسية وأخلاقية مزمنة. 
    الأركانُ الأربعة المعتمَدة في الطريقة الأكبرية مثلًا، هي: (الخلوة، والصمت، والجوع، والسهر). هذه الأركان تقودُ الإنسانَ للانطواء على الذات، والانسحاب من الحياة والعزلة، شاء أم أبى. ابنُ عربي يستغرق في تأويلات تفصيلية لكلِّ واحد منها، فهو يشترط مثلًا أن تكون الخلوةُ للسالك مختلفةً عن طريقة الرهبان المسيحيين والبراهمة، لكنا لا نفهم كيف يعتزل المتصوّفُ الناسَ في خلوته، وينشغل بالصمت والجوع والسهر، من دون أن تكون تلك رهبنة. أليس ذلك الاختلافُ شكليًا، ولا يعدو إلا أن يكون اختلافًا في التسمية فقط؟            
يتحدّث أحمد بن سليمان النقشبندي عن سبع صيغ للأذكار في طريقة ابن عربي، وهي: «لا إله إلا الله» تكرر 1100 مرة، «الله» تكرر 100000 مرة، «هو» تكرر 90000 مرة، «حي» تكرر 70000 مرة، «قيّوم» تكرر 90000 مرة، «رحمن» تكرر 95000 مرة، «رحيم» تكرر 100000 مرة . يحتاجُ الإنسانُ إلى تفرّغٍ ووقت وطاقة هائلة لتكرار الكلمات والعبارات نفسها آلاف المرات، بشكل أقرب للميكانيكي الذي قلّما يلامس القلب. تكرارُ هذا النوع من الذكر لا أظنه الطريقَ لوثبة الروح، ولا أخاله يعملُ على إيقاظ القلب. وثبةُ الروحِ وإيقاظُ القلبِ يتطلبان كثيرًا من التدبّر الصامت والهدوء والطمأنينة، والتفكّرِ في خلق السماوات والأرض: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» . لا يُنكَر أن تكرارَ الكلماتِ والعبارات ذاتها بأنغام وألحان وإيقاع جماعي مثير؛ يمكن أن يُشعلَ المشاعر، ويوقدَ العواطف، ويُلهِب الحماس، وربما يبعثُ شيئًا من الانشراح. إلّا أنّ ذلك لا يوازي ما تورثه هذه الفعاليةُ من إهدار لوقت الإنسان، واستنزاف لطاقته، وتعطيل لعقله، وإغراق تفكيره في حالة غَيْبُوبَة.     هذا النوعُ من الانصراف عن الحياة المجتمعية ينتهي إلى منفى اختياري، لا يتناسبُ إلا مع حياة رهبان يعيشون عزلةً عن الناس، لا يستمعون في عزلتهم إلّا لصدى أذكارهم. يستسلمون لتعاليم جاهزة تستنزفُ طاقتَهم، لا يفكرون في آثارها، ويغفلون عن ضياعهم في الانهماك فيها. لا يتناسبُ هذا الانخراطُ في العزلة مع حياة الإنسان الذي يهمُهُ إعمارَ الأرض والعملَ والبناء والإنتاج، ويتعارضُ مع مَنْ ينشدُ العيشَ في الواقع الذي يضجّ بمختلف التحديات والمشكلات والآلام. ولا يتقبله مَنْ يتحمّلُ مسؤوليةً أخلاقية تجاه الإنسان وقضاياه العادلة، ولا يتخاذلُ أو يتهرّبُ من وظيفة الاستخلاف في الأرض، وتسخيرِ الطبيعة واستثمارِ مواردها بما ينفعُ الناس.
   التشديدُ على تقليد أقطاب التصوّف في سلوكهم، والحثُّ على تقمّصِ حياتهم الخاصة، والوقوع في أسرِ تعاليمهم يمسخُ الإنسانَ فيصيّره كائنًا شبحيًا، يفتقد أيّةَ ملامح شخصية يختصُّ بها ويتميّزُ عن غيره. تصوّفُ الاستعباد يؤكدُ على الاستسلامِ والسمعِ والطاعة، والتخلي عن الإرادة الذاتية. الطاعةُ بهذا الفهم تعني انقيادَ الإنسان ورضوخَه وخضوعَه الكامل للشيخ، وتنازلَه عن ذاته وحقوقه وحرياته، وقد يصلُ ذلك إلى استعداده للتنازل عن كرامته. ربما يوصي بعضُ شيوخ التصوّف المريدَ بشيء من الممارسات المبتذَلة مما يستبشعها الذوقُ السليم. بعضُ الطرق الصوفية ترى التنكيلَ بالنفس ضرورة تربوية للسالك، حتى لو لجأ للتسوّل والتسكع في الطرقات.   شيوخُ التصوّف بشرٌ تورّطَ مريدوهم في تقديسِ آرائهم، وتوثينِ سلوكهم، وتحويلِ شخصياتهم إلى أصنام. تمادى المريدُ في سجن نفسه بعبوديةٍ طوعيةٍ لشيخه، وتعالتْ تعاليمُ الشيخ في وجدان الأتباع فصارت سجنًا لهم، بنحوٍ صار المريدُ يرضخُ لها حدّ محو شخصيته ونسيان ذاته، وانتهت إلى تكبيلِهم وعجزهم وشلِّ حركتهم. المشكلةُ العميقة في تصوّف الاستعباد أنه يبرع في نحت أوثان البشرية، بنحو صار جلالُ الدين الرومي المتخيَّل مثلًا في وجدان الكثير من أتباعه وثنًا. هنا انقلبت وظيفةُ التربية في التصوّف، فأضحت تنتج عُبّادًا لأوثان بشرية. الله يدعو إلى التوحيد، وألا نتخذ أحدًا من دون الله إلهًا، ولن نعبد سواه أبدا. «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ».
   حتى عبادة الله يمكن أن تتحوّل إلى صنم يستعبدُ بعضَ المتصوّفة. سُئِل أبو يزيد البسطامي: «مالنا نعبدُ اللهَ ولا نجدُ لذةَ العبادة؟ قال: إنكم عبدتم العبادةَ، ولو عبدتم اللهَ لوجدتم لذةَ العبادة». ميكانيكيةُ العبادة، والإسرافُ في تكرار الأذكار باللسان، والولع بالكم، وانفصال القلب عن اللسان يعبث بروح الإنسان، وربما يكون أثرُه عكسيًا يُهشِّم الإنسان.    
   يتعاملُ المريدون مع شيخ الطريقة بوصفه صنمًا، لذلك تنطفئ شعلةُ أرواحهم، ويمسون رقيقًا لا يمتلكون شيئًا من ذاتهم. يصادر مشايخُهم حرياتِهم، ويتسلطون على حياتهم الخاصة أحيانًا، ويحاولون التحكمَ بتفكيرهم وعواطفهم وسلوكهم. بمهارةٍ يبتكر شيوخُ بعض الطرق عملياتِ تدجينٍ للأتباع، يتنازل فيها المريدُ لهؤلاء عن حرياته طوعًا، ويسمح لهم بالتسلط على كلِّ شيء في حياته. هنا تنقلب وظيفةُ التصوّف، فبدلًا من أن يكون امتلاكًا للذات عبر وصالها بالحقّ، والاستغناء عن كلِّ شيء سواه، يتعرض المريدُ إلى انسحاق مُهين للكرامة أمام مشايخ الطرق. 
  تصوّفُ الاستعباد يعني أن يتطوّعَ الإنسانُ بوضعِ كلِّ شيء في حياته تحتَ وصايةِ شيخِه. هذه بدايةُ محوِ الذات الفرديَّة، وإنتاجِ نسخٍ متماثلة من المتصوّفة، تظهر متطابقةً في الخارج؛ تتشابهُ في كلِّ شيء كأنَّها روبوتات. نشأ تصوّفُ الاستعباد من إساءةِ فهمِ وتطبيقِ معاني القضاءِ والقدرِ، والتوكّل والتسليم لله، والصبر وتحمّل الألم، وغير ذلك من اعتقاداتٍ أنتجتْ تعطّيلَ إرادةِ المتصوّف، وشلَّ فاعليته وحركته، وغفلتَه عن استعمال عقله، وتقييدَ حرية تفكيره النَّقدي، وجعله إنسانًا مُسْتَلَبًا رَاضِخًا. 
    تضخّمُ الصورُ المتخيَّلة في ذهن المريد يعمل على تنازله عن كلِّ شيء في حياته لشيخ الطريقة، وإذعانِه وانقياده وخضوعه له مختارًا. متخيَّلُ المريد لا يكفُّ عن ابتكارِ المواقف الخارقة والأحوالِ المدهشة والهالةِ المقدّسة للشخصية الروحية الاستثنائية. يظلُ المريدُ يراكمُ الصورَ المتخيَّلة بشغف، إلى أن تصلَ الصورُ المتخيَّلة حدًا تمحو فيه الطبيعةَ البشرية لهذه الشخصية، وتصيّرها في ذهن المريد كائنًا مجردًا من المادة وشؤونها، لا تشبه في عيشها وأحوالها حياةَ الناس في الأرض بشيء. الصورُ المتخيَّلة تتوالد باستمرار، كلُّ صورة تولِّد صورةً أوسع منها، تواصلُ هذه الصورُ تمدّدها وتوليدها لصورٍ أخرى بكثافة ‏حتى تستبدّ بالذهن، وتنتزع تلك الشخصية من عالَمها الأرضي وترفعها إلى العالَم الربوبي. ‏تفرضُ الصورُ المتخيَّلة حضورَها فتأسر ذهنَ المريد وتخفي عنه الواقع. إذا تضخّم متخيَّلُ المقدّس توارى العقلُ النقدي ‏واحتجبَ الواقع. لو لم يضع العقلُ النقدي حدًا لتضخّم هذا المتخيَّل يغرقُ الذهنُ في اللامعقول.‏ 
   من أمراض التصوّف المتأخرة تفشي التوريث من خلال الانتساب إلى مؤسس الطريقة، الذي يمنح الأبناءَ مشروعيةً على أساس الدم، وان كان بعضُ هؤلاء الأبناء بلا علم، وبلا حياة روحية، وبلا ضمير أخلاقي يقظ. مثلًا المولوية لم يتوقفوا عند جلال الدين الرومي الذي صار معبودَهم، بل انصاعوا لسلسلة من أحفاده وذريته، ممن أضحى بعضُهم لا ينتمي لجلال الدين إلا بالدم. تفشى هذا المرضُ الروحي والأخلاقي في حياة المريدين، إلى الحد الذي أضحى يصعبُ شفاءَ أكثرهم منه. 
   كلُّ سلطة تفتقرُ ‏لمشروعية الأرض تسعى لاستعارتها من السماء. انشغل بعضُ أحفاد مؤسسي الطرق الصوفية ببناء التكايا والخانقاهات والزوايا؛ بدوافع في أغلبها ليست روحيةً ولا أخلاقية ولا إنسانية. دوافعُ تشبه بناءَ المساجد لدى أكثر الخلفاء والسلاطين والحكام المستبدين، الذين يبحثون عن مشروعية دينية. الطاغيةُ صدام حسين انشغل ببناء المساجد المدهشة سنوات الحصار المريرة، وهو يتفرج على المشاهد المريعة لموت أطفال العراق، وانتهاك كرامة المواطنين وتجويعهم بسبب مغامراته وحروبه
الطائشة.