النصُّ الغاضب وردَّة الفعل

ثقافة 2022/04/23
...

 علي لفتة سعيد
 
بعد أيّة مرحلةٍ عصيبة تمرّ بها الشعوب، ثمة ظهور لجنسٍ أدبي أو مصطلحٍ أدبي أو ثقافي بشكلٍ عام.. وهو ما يعني تأثير المرحلة في الواقع الذي كانت تعيشه الأمة المستهدفة، ومنهم المثقف بشكلٍ خاص، إذ يلجأ الى استثمار الأزمة التي خلّفتها المرحلة وحوّلت الحياة الى شكلٍ آخر، أو أن خطوطها العريضة سواء منها الاجتماعية أو الاقتصادية أو الدينية أو السياسية بصورةٍ عامةٍ تسير وفق اتجاهات جديدة.
ففي زمن ما قبل عالم 2003 في العراق وحين كان الخوف هو العنوان السائد، سواء اتفقنا على الحقبة الزمنية السياسية أم اختلفنا معها، فإنّها بالضرورة أنتجت لنا نصوصًا تعتمد على التورية والقناع، أو بأبسط توصيف، هو أن الطريق المستخدم للتدوين الأدبي إذا ما أراد نقدٌ جزيئة مهمّة من الواقع الذي كان سائدًا، فإنّ الأديب كان يلجأ الى التاريخ واستلهام شخصياته وإسقاطاتها أو الهروب إلى الإمام، أو حتى استخدام الحيوانات طريقةً لطرح الفكرة، وهو ما يمكن تسميته بأدب الخوف أو الأدب الخائف، لأن لا سبيل آخر، ليس لمواجهة السلطة، بل الشعور أن النص الأدبي يمكن له أن يكون قادرًا على تلبية احتياجات الذات المنتجة في مواجهة خوفها، فيكون اللجوء الى هكذا معيارٍ نصّي أو تدويني أو حتى جنسٍ أدبي هو خيار أريد به أن يكون مرحلًا أو شعورًا بالاعتزاز.. ولذا كنّا نرى الكثير من النصوص التي تحمل جرأتها المبطّنة تكاد تكون معلنةً بطريقة الانزياح أو التورية، لأن المعنى المضمر في المواجهة يكون صعبًا، بل محفوف بالمخاطر التي تؤدّي الى ضياع الأديب نفسه ووقوعه تحت طائلة قانون المواجهة والقذف وغيرها، يمكن لنا إيجاد التأثر النفسي للكتاب ومعرفة مرجعياته النفسية ومدى تأثير الواقع عليه من خلال كمٍّ كبيرٍ من العلامات والدوال التي يضمّها النص.. ومن بينها بكل تأكيد العوامل النفسية التي لا يمكن فصلها عن العوامل الإنتاجية لأيّ شيء في هذا الكون، حتى لو كان عملية إنتاج قميصٍ أو ثوبٍ أو صناعة لعبةٍ أو دمية، فاللحظة التدوينية لا تنفصل عن اللحظة النفسية التي أنتجت الفكرة في مرحلتها الشفاهية من جهة، ومن ثم اللحظة التي أنتجت عملية التدوين.. فما دام هناك فعل آني يراد له إنتاج شيء ما، فإنَّ هناك فيضًا نفسيًا وتراتبيًا سيكولوجيًا وترابطًا اجتماعيًا وأثرًا انفعالًا وتأثيرًا بيئيًا، كلّها تدخل ضمن معترك التحوّلات المصاحبة للإنتاج لهذا النص أو ذاك. بمعنى أنَّ ثمة شيئًا محسوسًا وآخر ملموسا.. وثمة رؤية تحليلية وأخرى تفكيكية، من دون الخوض في أصل التحليل من وجهات نظرٍ مختلفة، سواء ما يتعلّق بالفلسفة الدينية أو الفلسفة المادية، ومن ثم فإنَّ ربط الإنتاج النصّي باللاوعي أو اللاشعور، هو الذي يعطي أهمية المكان أو البيئة التي تنتج عوالم هذا النصّ أو ذاك.. بمعنى أنَّ التأثير النفسي سواء بالمواكبة والتأييد أو المزاملة والتعارض فإنَّ الأشياء موجودة أصلا.. فما كان غير مسموحٍ به سابقًا أصبح الآن قابلًا للتفكيك والتهشيم وإعادة الإنتاج، كما هو الحال مع التابوات الثلاثة الأكثر شهرة في مواجهة الواقع الذي بسببه تحوّل المنتج الإبداعي الى حالةٍ من الفعل المضاد، أو ردّة الفعل الأول، فإنَّ نصًّا غاضبًا على كل ما له أثر، هو ما يمكن أن نراه في الكثير من الروايات التي تناولت ما لم يكن مقبولًا في تناوله سابقا، لكنّه كان بطريقة الاتجاه المعاكس من أّجل جذب المتلقّي الذي يريد من أحدٍ ما أن يتحدّث نيابةً عنه.. بمعنى أنَّ المتلقّي يدرك أنَّ هناك أشياءً كثيرةً حدثت وحصلت في واقعه، لكنه لا يمكن له أن يقول إن هذا ما حدث.. فمثلا إن التابو الجنسي لم يكن كما كان في السنوات التي سبقت التغيّرات في العالم العربي إذ كان محرّما، فجاءت الروايات لتوصف ما لم يوصف سابقا وتعيد مرجعيات ردّة الفعل الى واقعه السياسي.. وكذلك التابو الديني إذ وصلت بعض الروايات الى استلهام الفعل الفقهي لترتيب أولويات المواجهة مع رجال الدين مثلا، وإظهارهم بمظهر آخر لم يجرؤ أحد ما قبل المتغيّرات على تناولها، وقد جاءت هذه النصوص بطريقة ردّة الفعل الغاضبة، كون الواقع الجديد ليس واقعًا ماديًا بسيطًا تغيّر من جهة اليمين الى جهة اليسار، أو مقارنة الأفضل بين ما سبق وبين ما هو حاضر في الواقع.. وهذا الأمر لم يكن أيضا إنتاجًا عربيًا جدّيًا، بل هو كان أيضا تأثيرًا بالنتاج الغربي الذي يمتلك الحرية الفاعلة في إنتاج ما يريد، ويوصف ما يريد من الفعل الكنسي أو السياسي وما قبلهما الجنسي، كونه ينتج فعلًا لا ردّة فعل، ينتج بروحيّة من يريد الوصول الى الهدف لا الغضب في مواجهة الواقع وضربه وتهشيمه.