في التجريب ودواعيه الفنية

ثقافة 2022/04/23
...

 د. نادية هناوي
لا يتم التجريب إلا على يد كاتب متمرّس وواع، يعرف حدود إمكانياته ويدرك أن الخط الذي ينتهجه في الكتابة السردية فيه من التمكن والخصوصيّة ما يكفي لخوضه المغامرة بكل تفصيلاتها وإنجاز متطلباتها
يعرف التجريب بأنّه ابتكار من ناحية التنظير، ومغامرة من ناحية الممارسة، وإجراء من ناحية الكتابة. وبما يجعل أمر انتهاج مسلك ما من المسالك يسيراً بقدر معين وباشتراطات تحددها طرائق الابتكار وعلى وفق متطلبات عملية، تقتضيها الكتابة التجريبية في شكل نص إبداعي يحاول أن يغاير في إبداعيته النصوص المنتمية إلى الميدان نفسه.
ويشمل هذا التوصيف لفاعلية التجريب مختلف أنواع الإبداع الأدبية والفنية كما أنه لا يكون في فن إبداعي بدرجة أكبر من غيره بل المسألة سواء بسواء، ولكن قد تكون الحاجة إليه في فن من الفنون أكثر من غيره. والسرد واحد من الفنون التي تمنح كتّابها مساحات من التجريب يحاولون من خلالها جعل متونهم السردية وما حولها من عتبات وعنوانات أوفر قدرا من اللا اعتياد الذي يتحدد عادة بمدى استقرار أساليب السرد وقوالبه.
وليس للكاتب أن يكون مجرباً أو تجريبياً ما لم يمتلك عيناً مجهرية تتيح له معاينة المفاهيم والتصورات والتقانات والقوالب وكل الدقائق التي قد لا تبدو واضحة من دون هذا النظر الميكروسكوبي الذي يحوّل الكتابة إلى مخبر علمي والكاتب إلى فاحص يفرض الفرضيات ويعمل على إثبات صحتها. وليست المسألة في ذلك كله مضمونة النتائج، بل تظل مغامرة قد لا يظفر الكاتب من وراء المعاناة في خوضها بأي طائل ذي جدوى، غير أن العودة لا تكون إلا من أجل معاودة ثانية وثالثة إلى أن ينال الكاتب ـــ الذي يعي المغامرة ـــ مراده من التجريب فيبتكر شكلاً كتابياً يخالف به أشكالاً معتادة، وقد يحول المعتاد نفسه إلى صورة غير مألوفة، وربما يسلك مسلكاً لم ينهجه قبله أحد فيفتح بذلك الباب لغيره كي يجرب فيه أيضاً.
ولا يقتصر أمر التجريب على جيل بعينه أو حقبة ما كما لا خصوصية فيه لأرجاء معينة أو أصقاع مخصوصة ولا هو خاص بفئة أو مجموعة أو شعب، بل هو متاح في كل زمان ومكان. ولولا نزعة التجريب لما تجدد الأدب وتطور واستمر في طريق التجديد فلم ينغلق أو يتجمّد عند نماذج وقوالب ومسالك ومسارات، بل ظل ينوع ويعدد ويطور. وقد تقصر أو تطول المسافات الزمانية بين تجريب وآخر في الجنس الواحد نفسه، ولكن المهم أن النزوع إليه موجود وحاضر في كل زمان ومكان. 
ومن المهم الإشارة إلى أن هناك عوامل موضوعية تسهم في الحض على التجريب وتسريع ديمومته وتقوية النزوع إليه استشعارا بأهميته وإدراكا للحاجة الماسة إليه. وما كان لكثير من التحديثات والنزعات الطليعية أن تكون في كتابة القصيدة والقصة سوى لأن التجريب كان هو المحرك الدينامي المولد لحركات الإبداع والتجديد فيها.
وتتنوع المخابر التي فيها يجرّب الكتّاب والشعراء ألوانا شتى من الصور والأساليب، وإذا خصصنا القول في مخابر التجريب في السرد، فإنَّ الغالب عليها عنايتها بالأشكال بالدرجة الأساس. ليس لان المضامين لا أهمية لها أو هي سهلة الاقتناص والتوظيف للأشكال وإنما هي طواعية المضامين للتجريب الشكلي وقول الجاحظ مشهور في هذا الموضوع، فضلا عن أن التحدي في ابتكار شكل سردي أهم فنيا في التاريخ الأدبي من الوقوع على مضمون جديد. وتاريخ الأدب هو في الأساس تاريخ التحولات في التجارب الفنية والأدبية.
ولكن ماذا لو كان التجريب في الاثنين أعني الشكل والمضمون؟، هل تتغير مهام الكاتب المجرب ويقوى التحدي أمامه وهو يحاول إمساك الجديد فيهما معا؟، وما طبيعة العقبات التي يمكن أن يصادفها الكاتب في تجريب شكل جديد بمضمون جديد؟، وما الدوافع التي تحمل الكاتب على المغامرة في مضاعفة التجريب ليكون شكليا وثيماتيا معا؟، وكيف يمكن للمغامرة أن تكون والكاتب يوزع نفسه ويشطر أدواته ما بين أشكال الكتابة السردية ومضامينها؟.   لا يتم التجرييب إلّا على يد كاتب متمرّس وواعٍ، يعرف حدود إمكانياته ويدرك أن الخط الذي ينتهجه في الكتابة السرديّة فيه من التمكّن والخصوصيّة ما يكفي لخوضه المغامرة بكلّ تفصيلاتها وإنجاز متطلباتها.. بيد أنّ الكاتب المجرّب لا يكفيه أن يكون متمكّناً كما لا يسعى لجعل التمكّن حائلاً من دون أن ينطلق مغامراً ويرود فضاءات جديدة ولا تهمه النتائج إن كانت لصالحه فيحقق هدفه أو كانت ضده فيخيب أمله. وكثيرة هي الموضوعات التي تحرّض كتاب السرد على التجريب فيها على وفق طرائق جديدة.
وإذ تتمظهر الرواية بمجموع عناصرها التي فيها يكون التجريب عاماً وقد يكون مخصوصا بعنصر معين منها، فكذلك القصة القصيرة لها عناصرها التي يمكن للقاص أن يجرّب في كتابتها، غير أن ما يميز التجريب في القصة القصيرة عن التجريب في الرواية هو ما يأتي:
1 ) أنه أكثر تخصصيّة من التجريب في الرواية.
2 ) أن المغامرة غير متاحة بالمساحة نفسها المتاحة في الرواية. 
3 ) ألا ينتهك التجريب القصصي مواضعات التحبيك فلا يتسبب في انفكاك عرى البناء المكثف والقصير.
وبناءً على ما تقدم يكون التجريب في القصة القصيرة أكثر صعوبة من التجريب في الرواية. ومن ثم يقل عدد كتّاب القصة القصيرة المجرّبين بالقياس إلى عدد كتّاب الرواية لا سيما الذين يوظفون طرائق تجريبية في القصة أو يتخذون من الفلسفة مصدرا يضيء للكاتب آفاق التجريب. ولهذا التجريب حدود وأساليب في فهم الزمان ووقائع التاريخ كما أن له أغراضا وجودية وما بعد وجودية في تحصيل المعاني وتصيد الدلالات إزاء الموجودات الكونية من ناحية جدليتها أو عدميتها أو أبديتها. ومن جملة هذه المنظورات والاستراتيجيات يتحصل كاتب القصة القصيرة تحديدا وكاتب السرد عموما على متخيلات سردية شاسعة بسيناريوهات ومفارقات ومنتجات وتناصات شتى.
وقد تشترك صنوف التخييل جميعها في عملية تجريب كتابة القصة القصيرة والسمة العامة الطاغية عليها واحدة وهي أن الكتابة قرينة الحياة في سرعتها الجنونية ونسيانها الهائل لذاكرتها أكثر من ذي قبل. 
وكثير من المفكرين والفلاسفة والمؤرخين مارسوا كتابة الشعر والسرد واستمدوا من القصائد والروايات والقصص والمسرحيات رؤاهم، كدليل على أن الأدب متصل بالواقع ولا فاصل بينهما، بل إن أحدهم قد يتوصل إلى تأويل ما هو غامض في الآخر، وقد يكون كل واحد منهم منبعا للآخر، يمد بالطاقة الإبداعية ويمنح الاستطاعة الفكرية التي تساعد في شحذ الذهن وقلب ثوابت العقل والمراهنة على إعادة البناء والتشكيل من جديد مستعيداً إرثاً مديداً من الإنجاز والعطاء الإنسانيين.
وما من جديد لا يحتاج الى من يكتشفه وما من قديم يدوم من دون الإعادة والتكرار وما من فكر يتحجّر وهو دائم التوالي وباستمرار. وليس للكاتب أن يبرهن أنه صاحب فكر متجدد ذي عمق فلسفي وطول باع معرفي سوى بالتجريب الذي به يصهر المعارف مع بعضها بعضا فيتجلى إبداعا فيه الجدة والعمق والضلاعة.