طالب محمود السيِّد في أحوال التجلُّد و التبلُّد

ثقافة 2022/04/23
...

 إسماعيل نوري الربيعي
 
هكذا يتبدّى طالب محمود السيّد في أشدِّ أحوال الإفصاح والاتقان والتعبير الآسر الأخاذ. ساعياً نحو تحريك النص بمشيئة العارف المتوقّد، بانثيال آسر وأخّاذ. يفتتح النص بــ (اتّشحت بغداد الصوبين بالسواد بعد استشهاد عدد من الشبان على جسر المأمون في تظاهرات 48). طالب محمود السيد يستجمع شتات الواقع البغدادي في ترصد تداعيات الواقعة التاريخية، بروح الأنثروبولوجي القادر والمتمكن للإمساك بتلابيب اللحظة. يستثمر فيها كل التفاصيل، متحاشيا الإملال أو السقوط في دوامة السأم والضجر. بحرارة وألفة، ودربة متفحّصة، وعين لا تفتأ تعاين وتراقب. يعمد إلى تأثيث المشهد (بين حصانين). مستثمراً قوة الإيقاع الذي يحدثه الحوار الحار السخين، المتوقّد والمتوثّب. عامداً نحو توظيف ضربات القدر البتهوفنيّ؛ (الله يهجم بيت الانكليز على بيت الألمان على بيت الباشوات الحرموني من فرحة جكر كلبي وليدي الوحيد). 
ينطوي نص (بين حصانين) على قدرة تعبيرية، يتجذّر فيها الترسيم العميق والمباشر لمعالم نسق الحرمان الطبقي الذي تعاني من وهدته شخصيات الحارة البغدادية. حيث الحوذي والخبازة واللمبجي والحداد والنجار وجموع المعوزين والفقراء والمحتاجين. حيث النهل من قاموس الكادحين الذي تم تجاهله، والتفريط به في الراهن العراقي الذي نعيش. فالجميع بات يعيش أحوال الزعم والإدعاء الفاحش بالأهمية والصدارة والمنعة والأصل المجيد والنبيل، حتى باتت مقولة (أنا أمير وأنت أمير، من كان يسوق الحمير؟!) تكشف عن النزوع المرير والمفجع لكل ما هو كاذب ومزيف. طالب محمد السيد يحمّلنا وزر التعبير الذي يعمل عليه، نحو استحضار المألوف والعادي والبسيط والشائع واليومي، بل والمبتذل. في ظل الغياب الموجع لأزمة الوعي بالموقع الطبقي. الذي راح يفتك بالشخصية العراقية الراهنة. التي راحت تعاني من التشظي الهوياتي، وأحوال التنمّر الطائفي والطبقي. بحساب التدافع بالمناكب على التحريض الطائفي. والنزوع المفرط نحو السلطة. بعد أن تسيّد المشهد سياسيون من دون رأس مال (مادي أو رمزي) لمقاليد الواقع العراقي الراهن. ليكون الحال أحوال الفشل المريع الذي يجعل من الواقع وقد توقف عند أو بين حصانين؟! أو بين الغياب الموجع للروح الإنسانية العميقة والجوهريّة. 
السارد هنا ينتج نصاً شديد الانتظام، مستنداً إلى آليّة الربط المحكم بين عناصر النص الداخلية، بنسق اللسان. عبر توظيف تقنية الحوار باللهجة البغدادية المحلية، سعياً نحو تعميق دور الشخصيات في صلب النص. وهكذا يؤثث طالب محمود السيد فاعلية التعبير، من خلال؛ (الحاج رشيد يجأر بالشكوى، كان العربنجية أكثر المحتفلين حيوية، شهدت طولة حسن الأبتر نشاطا غير معهود). كل هذه التفصيلات التي يعمد السارد نحو تفعيلها في صلب النسق الثقافي. حيث التوظيف الدال والعميق للعناصر الداخلية، محاولا التوجه نحو خلق حالة من التوازن بين (العناصر الداخلية والخارجية). ومن هنا تتبدى قدرة طالب محمود السيد في التماهي مع التقاليد الأدبية، الساعية نحو تحقيق شعرية النص الأدبي، القادر على رصد مواطن الجمالي، في تفاعل ثر، وانفتاح على المجمل من المكونات التي يشغلها الواقع. 
ما ينشده طالب محمود السيد، لا ينطوي البتة على اجتراح نص أدبي يتعلق بتفاصيل تاريخية، تتعلق بحادثة جسر الشهداء عام 1948. بقدر ما تتفاعل في دخيلته أحوال البحث عن مرتكزات (الموقع الحيوي)، الذي يجعل منه دالة للانطلاق في توظيف الجمالي. السارد هنا يملك من الطاقة والقدرة على التحديد والمبادرة والتمييز، والتي يتم من خلالها المساهمة المباشرة في رسم وتحديد مدركات القارئ من خلال التطلع نحو الإمساك بموجهات البداية والنهاية التي يقوم عليها النص. ما يركز عليه يقوم على بناء النسق الذي يعتلج في دخيلته. حيث النقاء الإنساني بكل غزارته، وأحوال التلاحم الإنساني، والاستدعاء الحار السخين لكل ما هو عامر بالشهامة والتضحية والنبل والإيثار. بعيدا عن تقحّمات الراهن التي راحت تعتمر في دخيلة الجميع، (حيث مجتمع صمون عشرة بألف). حتى باتت شهوة السيطرة والتحكّم تلتهب في عيون الجميع. طالب محمود السيد بين حصانيه، يدين تزاحم وتداخل وتراكب الأنساق، ويعمد نحو تنقية النص من الأنساق الدخيلة التي باتت تعرّش في الواقع الراهن. ومن هنا تراه يستل الواقعة (شهداء وثبة 1948) بوصفها وسيلة وأداة لتنقية وتطهير ما علق في النفوس. إنها الصرخة الموجعة، شديدة الإيلام، المتطلعة نحو إعادة النظر بالمجمل من التفاصيل الثقيلة التي جعلت من الناس يفقدون الأعز في كينونتهم والقائمة على (فقدان الذات والهوية والأصالة). وهكذا يكون التطلع نحو استثمار فاعلية التحديد في القدرة على اختيار العناصر التي تشكل مكوّنات النصّ. 
(فتحت نورية الباب هاشة باشة واندفعت لاحتضان فوزية لكنها ترددت لحظة بسبب العجين الذي علق بثوبها وشعرت بخجل خفي لم يحبط حفاوتها بالقادمات)، السارد لا يفرّط  بالشمولي حيث البناء الكلي الذي يقوم عليه النص، ولا يغيب عنه توظيف الجمالي، عبر العناية القصوى بتشكيل الجمل المشحونة بقدرة تعبيرية مؤثرة وفاعلة وأكيدة. لكنه يعمد إلى إمرار نسقه الثانوي، سعيا للكشف عن النسق الثقافي، عبر إنجاز نص يدور في فلك الفعل التواصلي. 
من خلال جذب القارئ إلى استدعاء أحوال المقارنة بين الماضي بكل تفاصيله المتقشّفة والفقيرة، حيث الإفلاس والإملاق والبؤس والحرمان والحاجة والعوز، والخصاصة وشظف العيش والإملاق والضنك والضيق والعالة والعُدم والعسرة والفاقة والمتربة والضُرّ والبؤس. والراهن الموغل في زيفه وادعاءاته وتعاليه الموجع على الواقع الهش البائس. حصان كان ينتفع به، وحصان راهن تحاصره المولات وقصور الفاسدين وأصوات مولدات الكهرباء التي تخرق الأسماع والنفوس والأرواح. طالب محمود السيد رقم صعب في السردية العراقية المعاصرة.