جورج القديس

ثقافة 2022/04/23
...

نزار عبد الستار
من أكثر الحقائق علواً وثباتاً عبر تاريخ الأدب هي أن القيمة الانسانية الملتزمة للكاتب، وسمو فكره هما الجوهر العميق للابداع. 
مشكلة جورج أورويل الادبية أنه يفضل قول الحقيقة على الاحتيال السردي لذلك هو دقيق إلى درجة الملل. الكثيرون لديهم القوة نفسها على الإبهار بمعزل عن التشويق والسلاسة. هنري ميللر، وحتى كافكا، واحيانا فوكنر، يمكنهم خلق الانبهار دون استعمال الكثير من الخيال.
في رواية جورج أورويل الصعود إلى الهواء لا يوجد سوى الضجر وهموم التقدم في السن، ومعاناة الحياة اليومية، فجورج بولينغ بطل الرواية يهرب من ملله الروتيني ليقوم برحلة إلى مكان طفولته. براعة الحقيقة عند أورويل أنه يجعلنا نتعلق بتذمر بولينغ من حياته الغبية ويجبرنا على الشعور بالمرارة نفسها التي في فم بولينغ، وهو في سن الخامسة والاربعين حين يوجعه أن كل أماكن طفولته قد تغيرت واندثرت. 
الجهد البالغ في المقاربة بين الفن والحياة هو العنصر الذي يخلق الانبهار بالعمل الأدبي ويجعله فاعلا في كل الأزمنة. إنه الاندفاع بالحقيقة إلى درجة الاصطدام بالجذر التكويني. هذه الفرادة نجدها ايضا في موبي ديك. إن سر الدقة الإعجازية في هذه الأعمال أن كتابها على قدر كبير من الصدق الانساني، وان الفن مهما بغلت المهارة فيه درجة عالية إلا انه لن يكتمل إلا بالفرادة القيمية والانسانية للكاتب.
جورج أورويل رغم كل ما عاناه من الفهم السيئ لفكره السياسي، ومن التشكيك المتعمد بموهبته الروائية، إلا أنه التزم بالدفاع عن الأفكار التي يؤمن بها، وكان سلوكه الانساني شديد الشبه بكتاباته، لأنه آمن بعمق أن الحقيقة يجب أن تقال مهما كان الثمن، إلى حد أن هناك العديد من معاصريه يعدونه قديساً، أو مسيحا جديداً. إن الذين يطبقون الدقة على حياتهم اليومية يبدعون كثيرا في فهم الإنسان ولهم القدرة على كتابة روايات تبهرنا بعظمة فكرة الحياة وبحتمية الشقاء الانساني. 
لم أتوافق يوما مع أفكار أورويل ولم تجرفني الآراء التي تعظمه، ولكنني انبهر بما يكتب ويهزني صدقه ودقته المتناهية. عندما أتكلم عن الصدق في الكتابة، فأعني هنا ازاحة القشور الملونة والمغريات وكل الاكسسوارات الجاذبة، والألعاب السردية والإبقاء على حقيقة أننا حتى لو تباعدنا، زماناً ومكاناً، فإننا في حياة واحدة، ونشبه بعضنا، وكلنا من الروح المعذبة نفسها.